بدأت منذ عدة أسابيع اعتصامات عارمة في الجامعات الأمريكية والأوروبية تضامناً مع غزة ورفضاً لحرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة فيها كانت شرارتها في جامعة كولومبيا الأمريكية واشتدت أكثر مع استخدام إدارة الجامعة والسلطات والشرطة القمع المفرط في محاولتهم لفض الاعتصامات وترهيب الطلاب والمشاركين وثنيهم عن مواصلة الحراك لتتوسع بعدها تعم عشرات الجامعات داخل الولايات المتحدة وخارجها، ولا سيما في بريطانيا وأستراليا وكندا وفرنسا وفي بقية الجامعات حول العالم.
ويتضح من خلال المتابعة بعد مرور عدة أسابيع على هذا الحدث المتدحرج والمتنامي كما كرة الثلج أن ثورة الجامعات الأمريكية والأوروبية والغربية، مستمرة سواء بحدوث هدنة وسريان تنفيذها في قطاع غزة أم بعدم حدوث ذلك، يرجح أن الحراك الطلابي لا يرتبط مع ذلك بالضرورة رغم أن الحرب الإسرائيلية الوحشية على المدنيين في قطاع غزة هو الدافع والسبب المباشر، والأسباب التي تشير إلى استمرار الحدث بصرف النظر عن الاتفاق والتهدئة في غزة هي كالتالي:
أولاً: هذه الهدنة مؤقتة وغير مضمونة وها هو القصف متواصل رغم موافقة المقاومة على بنود العرض المقدم، وهي أي الهدنة ليست حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية ولا حتى لغزة وحدها بعد كل التضحيات، وبعد ما حدث من إبادة ومذابح ضد الفلسطينيين في القطاع من قبل الاحتلال الذي لا يؤتمن جانبه، إذ من الممكن أن يخرقها وينكث عهوده في أية لحظة حتى إن وقع نصاً مكتوباً معلقاً يتعهد فيه بوقف إطلاق النار.
ثانياً: هذه المظاهرات والاعتصامات مرتبطة بخضوع إدارات الجامعات لمطلب وقف استثماراتها في إسرائيل ومع إسرائيل وقطع علاقاتها بدولة الاحتلال تقنياً وتجارياً وأكاديمياً وثقافياً، وهذا الشرط رئيسي لكنه ليس نهائياً أيضاً.
ثالثاً: هذه المظاهرات والاعتصامات هدفها العميق تحرير فلسطين ودعم الفلسطينيين في الحصول على حريتهم وليس وقف إطلاق النار فحسب، وهذا الكلام يقال على ألسنة طلابها اليهود والأجانب، وحتى في الجامعات التي جمدت الاستثمارات مع دولة الاحتلال فالاعتصامات متواصلة وليست مسألة مؤقتة وانتهت، ففكرة وقف إطلاق النار وسحب الاستثمارات هما فكرتان مبدئيتان يبنى عليهما مطالب جديدة وليستا هدفاً نهائياً بحد ذاته ترجوه الاعتصامات الطلابية.
رابعاً: هذه المظاهرات والاعتصامات مرتبطة بوعي الطلاب بما يتلقونه من محاضرات ودروس نظرية وعملية ونظريات أكاديمية داخل الجامعات في ما يتعلق بالاستعمار والرأسمالية والديمقراطية والتمييز والتحيزات وغيرها، ولم يعد ممكناً لدى معظم هؤلاء التراجع أو القبول بتواصل التناقض بين النظري والعملي بعدما قارنوا الحالة النظرية الأكاديمية بالواقع العملي في فلسطين والعالم، ولن يتراجعوا دون إحداث تغيير جذري ملموس يسد الفجوة بين العملي والنظري في دول تزايد على كل دول العالم بمسألة حقوق الإنسان ومزاعم الحريات والتفوق الحضاري والثقافي والأخلاقي، ولن يعودوا دون إحداث تغيير نوعي يفضي إلى الشعور ببدء انتهاء لحقب الظلم السوداء التي نشرتها السلطة الغربية في فلسطين وغيرها أو سهلت وقوعها من خلال دعمها للديكتاتوريات أو تسهيل وصولها للسلطة في الدول النامية، وما اشتعال الأوضاع في فلسطين وعمليات مقاومتها إلا الشرارة وجرس الإنذار الذي فتح العيون لدى هؤلاء الطلبة، وأيقظ هذا الوعي الخامل في عقول مئات آلاف الشباب الذين سيصيرون صناع القرار لاحقاً.
خامساً: انكسرت قدسية وحرمة إسرائيل كآلهة لا يسمح المساس بها في الغرب وانكسر حاجز الخوف من ذلك ومن تابوهات "معاداة السامية"، وبالتالي فهي ثورة داخلية تخص الغربيين وليست حراكاً عابراً بالنسبة للداخل الغربي على المستويات السياسية والاجتماعية والأكاديمية يرتبط بالحدث الخارجي وينتهي بانتهائه.
سادساً: بات قمع الطلاب وموظفي الجامعات المعتصمين والعنف المستخدم ضدهم تحولاً جذرياً في شكل السلطة والحكم في الغرب لترى ديكتاتورية قمعية بنظر كثيرين بعد هذه المشاهد غير المعتادة غربياً، والتي تتناقض لدى المواطن والشاب الغربي مع أساسيات العقد الاجتماعي بينه وبين دولته في ممارسة المواطنة وهي حق حرية التظاهر والتجمع والتعبير عن الرأي؛ ما يجعل حراك الجامعات في تحوله بعد تعرضه للقمع أحد أشكال الثورة الداخلية ضد قمع السلطة الغربية لمواطنيها بعد تبجحها طيلة عقود أنها توفر لهم الحريات، وكل هذا من أجل دولة تعتبر أجنبية بنظر الطلاب وهي دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ما يؤدي لمزيد من الغضب باعتبار أن القمع للمواطنين ليس مصدره داخلياً بحتاً.
سابعاً: باتت قضية فلسطين بل وكانت قضية عالمية، ولكن منذ السابع من أكتوبر وما بعده ترسخت كقضية عالمية ومتصاعدة الإقبال من العامة والنخب حول العالم بطريقة غير قابلة للتراجع أو الركود، كما كان عليه الحال سابقاً بأن تمر القضية بمراحل صعود وركود، هذا قد يقع لاحقاً، ولكن بعد أن ثبتت القضية بمكانتها الشعبية العالمية واستقطابها دولياً في موقع أعلى وأرسخ مما كانت عليه من قبل، وكل ذلك بفضل الدماء والتضحيات الكبيرة، وخاصة في قطاع غزة.
ثامناً: لا ينسى بالإضافة لنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته في فلسطين الدور العظيم والتراكمي للطلاب واتحادات الطلاب من جاليات العرب والمسلمين ومن هم من أصول عربية والملونين والأفارقة والجاليات واللاجئين الفلسطينيين في كل هذا، فلهم فضل كبير وظهور مهم عبر العقود والسنوات رغم ضعفهم وتشرذمهم لكنه أثمر، ولا يقل عن دور المقاومين على الأرض والشعب الصامد في أرضه الذين أعادوا قضية فلسطين وتفكيك الاستعمار الصهيوني إلى صدارة قضايا العالم، وإنكار دور هؤلاء الطلاب أو نسيان أنهم فئة أصبحت ناشطة ووازنة ومهمة وتحظى باحترام وتجتهد أكاديمياً وسياسياً، خاصة في أمريكا وغرب أوروبا هو سلب لقدراتهم ودورهم وتفاعلهم الكبير، خاصة داخل أروقة الجامعات، فهم باتوا كالطوفان الذي يستقطب شباب الغرب بسلاح العقل والمنطق والتعامل الحسن مع الآخر.
خلاصة القول، في ضوء ما تقدم وغيره من الأسباب، يمكن القول إن ثورة الجامعات الأمريكية والغربية هي ثمرة عظيمة من ثمار المقاومة والصمود والنضال الفلسطيني داخل فلسطين وفي الغرب نفسه، وهي ليست حدثاً عابراً قصيراً ينتهي بالهدنة أو بوقف إطلاق النار في فلسطين وغزة، كما إنها ليست مجرد جبهة تضامن قصيرة الأمد أو مرتبطة لحظياً وبصورة مباشرة باستمرار العدوان العسكري ضد غزة أو انتهائه، بل أريد لها أن تكون مستدامة فضلاً عن كونها جبهة دعم مباشر للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة وحشية منذ 7 أشهر استشهد منه عشرات الآلاف، وقد لا ينتهي حراك طلاب الجامعات بالضرورة في حال سحب جامعاتهم ومعاهدهم الاستثمارات وتجميد التعاون بينها وبين مؤسسات دولة الاحتلال؛ بل قد يتوسع ليطالب بالمزيد الذي يرهق إسرائيل والحكومات الغربية وأجنحة الصهيونية في الغرب، وبالتالي فهي ثورة طلابية تعد جزءاً من الثورة العامة المنسجمة مع النضال الطويل الهادف إلى تفكيك المشروع الاستعماري في العالم، والمتمثل حالياً وحديثاً بالمشروع الصهيوني، وهز كل أركان أنظمة القمع والاستبداد في عالم أغرقته هذه الأنظمة في بحور من الظلم والسواد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.