يذكر أن أوروبا المسيحية هي التي انفردت بوضع القانون الدولي منذ العصور الوسطى وحتى القرن التاسع عشر، وفيما يتعلق بالمقاومة افترضت أن القوة الاستعمارية والسيطرة على الشعوب حق مشروع مادام يهدف إلى نقل هذه الشعوب من حالة البربرية إلى الحضارة، ولذلك سمت نفسها استعماراً، وهي كلمة إيجابية تعني البناء والتعمير، ولذلك بررت القوى الاستعمارية جرائمها في الأقاليم المستعمرة التي اعترضت عليها بهذه النظرية، إضافة إلى ذلك أنها استعانت بنظرية دارون الذي يقول بالبقاء للأصلح وأوروبا هي الأصلح واليد العليا، وأما الشعوب المغلوبة على أمرها فهي لا تستحق الحياة.
وبتطور الأحداث وعندما بدأ الاحتكاك بين القوى الأوروبية نفسها سمحت قواعد القانون الدولي بالمقاومة التي تعقب الغزو مباشرة، وميزت بين الغزو والاحتلال على أساس أن الغزو هو الفتح وهو الضربة الأولى للقوى الاستعمارية، وما لم تقم المقاومة ضد هذا الغزو فإنه يسقط حقها إذا تحول الغزو إلى احتلال، ثم قفزت هذه القواعد أثناء الحرب العالمية الثانية عندما احتلت ألمانيا معظم أوروبا الغربية وخاصة فرنسا، فاعترف القانون الدولي بالمقاومة ضد الاحتلال، ووضع قواعد للاحتلال الحربي، واعتبر الاحتلال عدواناً وفعلاً عدائياً، وأن المقاومة لهذا العدوان مشروعة باستخدام كل الوسائل، ولكن المشكلة أن هذه القواعد طبقت فقط على الرجل الأبيض ولم تطبق على أبناء المستعمرات.
وفي المرحلة الثالثة اشتدت معاناة الإنسان الأبيض خلال الحرب العالمية الثانية التي حصدت ملايين الأرواح، فتنادت أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي -حلفاء الحرب العالمية الثانية- لإنشاء عالم جديد يتمتع بالقانون في جميع المجالات، وخاصة في مجال ضبط سلوك المتحاربين، فوضعت اتفاقات جنيف الأربع عام 1949 ثم بدأ عصر ميثاق الأمم المتحدة الذي وضع سبعة مبادئ راقية تسير عليها الدول في علاقاتها الدولية، ولكن ظلت أوروبا تميز نفسها كلما كان الطرف الآخر في الصراع خارج أوروبا.
ثم بدأت المرحلة الرابعة في تطور المقاومة لأن الاتحاد السوفييتي اتفق بشكل استثنائي مع الولايات المتحدة على إزاحة الاستعمار الأوروبي، وواشنطن أرادت أن تحل بالمستعمرات محل الاستعمار الأوروبي، بينما أملت موسكو أن تحل محل أوروبا في مستعمراتها، وهكذا التقت إرادة موسكو وواشنطن على تأييد حركات التحرر الوطني، وأنشأت في الأمم المتحدة لجنة تصفية الاستعمار، وبالفعل بدأ التسابق بين واشنطن وموسكو في إطار الحرب الباردة لاستقطاب حركات التحرر الوطني، وكانت موسكو هي الأسبق في الحصول على نصيب الأسد، ولكن في نهاية المطاف تم الاعتراف في الملحق الأول لاتفاقات جنيف الأربعة المبرمة عام 1977 بأن حركات التحرر الوطني تتمتع بالشخصية القانونية الدولية، واستفادت المقاومة الفلسطينية من هذا التطور عندما اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت مبكر عام 1974 بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
هكذا تم الاعتراف بالمقاومة في القانون الدولي بالشرعية وأساس شرعيتها هو عدم شرعية الاحتلال، ولكن ظلت هذه القواعد نظرية تطبق حسب مصالح الدول الغربية، وقد ظهر ازدواج المعايير في مشاهد معاصرة أهمها المشهد الأوكراني الذي التف الغرب فيه حول أوكرانيا دفاعاً عن هيمنة الغرب ضد روسيا التي خاطرت وقامرت بتغيير النظام الدولي القائم على هيمنة الغرب، وقد اصطف هذا الغرب وراء إسرائيل لإبادة غزة لأن الغرب يعتبر إسرائيل وكيلاً له وقاعدة متقدمة لفرض هيمنته على الشرق الأوسط، فكبر عليه أن يعترف بأن الشعب الفلسطيني بشر وله حق الحياة مثل بقية شعوب الأرض، كما كبر عليه أن المقاومة الفلسطينية تجرأت وتسلحت بالقانون الدولي وظنت أنها مشروعة وفقاً لهذا القانون، وأن الغرب سوف يتحمس لتطبيق هذه القواعد على المقاومة الفلسطينية.
تطور المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل
بدأت مصر بتشكيل المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وبالفعل ظهرت المقاومة في حركة فتح في فبراير 1965، ولكن يبدو أن عبد الناصر كان حريصاً على أن يخلق مجموعة من أوراق القوة في مواجهة إسرائيل دون أن يكون لديه الرغبة في مواجهتها عسكرياً، بدليل أن الجيش المصري لم يتسلح ولم يتدرب وهُزم في جميع المواجهات مع إسرائيل ابتداءً من 1948 حتى 1967، ويبدو أن عبد الناصر اقتنع بهذه النظرية بدليل أن المعاصرين لعبد الناصر كتبوا في مذكراتهم أن عبد الناصر في عام 1967 كان يرى أن مصر لا تطلق الطلقة الأولى ضد إسرائيل التي كان لديها خطة محكمة لتدمير الطيران المصري وحسمت المعركة خلال ساعات.
وظلت فتح تقود المقاومة المسلحة من لبنان والأردن، وظل عبد الناصر يتدخل لتذليل عقبات المقاومة في البلدين حتى احتلت إسرائيل بيروت عام 1982 وأصرت على طرد المقاومة من بيروت إلى تونس، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من المقاومة الفلسطينية.
وقد بدأت المرحلة الثانية الحالية من المقاومة الفلسطينية بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، حيث بدأت مرحلة المقاومة الإسلامية ونشأت حماس وذراعها العسكرية القسام، كما نشأت الجهاد الإسلامي في العام التالي، ثم كان عرفات يتسامح مع المقاومة ولكن إسرائيل تمكنت من إبرام اتفاق أوسلو مع ياسر عرفات بعد أن اعترف ياسر عرفات بقرار التقسيم عام 1988 الذي رفضته إسرائيل، فأصبحت الساحة الفلسطينية تشهد طريقين متناقضين: الطريق الأول هو السلطة الفلسطينية التي كان يرأسها عرفات إلى جانب رئاسته لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولكن المقاومة اتخذت طريقاً آخر بدعم من الجمهورية الإسلامية في إيران، التي بدأت يومها الأول باعلان العداء لأمريكا وإسرائيل، وهكذا مارست أمريكا وإسرائيل ضغوطاً على عرفات حتى لا يتسامح مع المقاومة ضد إسرائيل، خاصة أن مصر التي كانت ترعى المقاومة مع فتح أيام عبد الناصر قد دخلت إلى المعسكر الأمريكي الصهيوني بمعاهدة السلام، وهكذا اتجه العرب إلى ما يسمى بالسلام مع إسرائيل كخيار استراتيجي، وقدمت السعودية مبادرة الملك فهد التي تبنتها قمة الرباط عام 1982، وهكذا فهم حكام مصر أن معاهدة السلام تلزم مصر بعدم الاعتراف بالمقاومة ضد إسرائيل، رغم أن معاهدات السلام لم تكن حلاً للمشكلة الفلسطينية، وإنما دعمت إسرائيل وجعلتها أكثر تعنتاً في مواجهة القضية.
والحقيقة أن معاهدة السلام هي ثمرة التقارب المصري الإسرائيلي الأمريكي وليس فيها نص يمنع مصر من الوقوف مع المقاومة، خاصة مع تعثر التسوية السياسية، ولكن مصر الحليف للولايات المتحدة وإسرائيل فهمت أن من واجبات التحالف معاداة المقاومة، وبالفعل اشتركت مصر مع الدول العربية الأخرى في إصدار قرار من الجامعة العربية يصف المقاومة بأنها إرهاب، وهذا هو الذي شجع إسرائيل على خطتها ضد المقاومة، ولقيت هذه الخطوة تجاوباً عربياً واضحاً خاصة من مصر بحكم تحالفها مع أمريكا وإسرائيل والسعودية التي تصدرت العمل العربي والإسلامي بعد تراجع الدور المصري، وقدمت السعودية تبريراً لهذا الموقف بأنها في صراع مع إيران التي تدعم المقاومة ثم تدعم الحوثيين في اليمن ضد السعودية.
والحقيقة أن الصراع هو بين إيران والولايات المتحدة، وأن السعودية منحازة للولايات المتحدة، وليس هناك خلاف من أي نوع بين إيران والسعودية بل هناك لجنة مشتركة للتنسيق السياسي للبلدين، وهكذا حلت إيران محل مصر في دعم المقاومة ولكن في إطار مشروعها المناهض لامريكا وإسرائيل، وارتكز الموقف الإيراني على أن المقاومة مشروعة وهدفها تحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة وتحرير الشعب الفلسطيني المستضعف، كما ارتكز الموقف الإيراني على قضية القدس التي تتسم بالطابع السياسي والديني، لدرجة أن إيران شكلت فرقة من الحرس الثوري الإيراني اسمها فيلق القدس.
فهمت إسرائيل أن القضاء على المقاومة الفلسطينية يفتح الطريق إلى تفريغ فلسطين من أهلها تمهيداً لاستقدام يهود العالم كمرحلة أخيرة للمشروع الصهيوني، وقد ظهر أن الدول العربية بدرجات مختلفة في أزمة غزة الأخيرة تعجز عن تحدي إسرائيل، ونشك بأن إسرائيل سوف تنجح في مسح المقاومة الفلسطينية بجميع أجنحتها وفصائلها من خريطة المنطقة، كما ظهر أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد ساند مساندة عمياء إسرائيل ولم يقابل هذه المساندة مساندة للمقاومة أو للشعب الفلسطيني من العالمين العربي والإسلامي ومؤسسات الأمم المتحدة، فلا تزال إسرائيل اللاعب الأساسي وصاحب القرار، ومع ذلك تبدو عاجزة رغم إمكانياتها الهائلة في شطب المقاومة من الخريطة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.