يقول عبد الله العروي في كتابه الماتع السنة والإصلاح: "أيام إسكندر وأيام يوليوس قيصر، خضع الشرق للغرب عسكرياً وسياسياً، لكنه ساد عليه ذهنياً وروحياً"، هذه الجملة استحضرتها وأنا أشاهد اليوم هذا الصراع الذي يبدو أنه أزلي بين الشرق والغرب، مهما حاول البعض تسميته بمسميات أخرى، الصراع العربي الإسرائيلي، الصراع في الشرق الأوسط، الحرب على الإرهاب، لكن في الحقيقة يبدو أن ما يحدد هذا الصراع بالدرجة الأولى هو الجغرافيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أي العرق والثقافة أيضاً لهما الدور الأبرز في هذا الأمر، بدون أن نعود إلى الوراء في الزمن كثيراً، لكن يكفي أن نشير إلى بعض القضايا المهمة، وهي أنه حتى الأديان خضعت لهذا الأمر، ومن القضايا الأبرز التي تشير إلى هذا الأمر ما سمي في العصور الوسطى التوفيق بين العقل والنقل، بعد ذلك ستظهر قضية التنوير ليبدأ عصر الاستعمار المعكوس، ما يجري الآن في الشرق لا يختلف كثيراً عن هذا السياق، لكن هذا الصراع في الحقيقة وإن كانت محدداته جيوسياسية، إلا أن الجانب الفكري فيه هو الأقوى بكل تأكيد.
عند التأمل في هذا الصراع على طوال التاريخ، يبدو أن المحرك الأساس له هو الفكر، ولنكن دقيقين أكثر ونقول بأنه هو الوعي، المقصود أنه كلما تطور الوعي في أحد الجانبين إلا وجعل سيادة العالم من بين أحد أهدافه، نجد على سبيل المثال، عند ظهور الديانة المسيحية، فإن الجماعة الأولى اضطهدت على يد الرومان، على اعتبار أن هذه الإمبراطورية تمثل الجانب الغربي من الكرة الأرضية أيضاً، من غير الخوض في التفاصيل التاريخية، نشير إلى أن هذه الديانة التي يعتبر البعض أنها كانت ثورة شرقية على الاستبداد الغربي آنذاك، خضعت في الأخير أو جانب كبير منها للهيمنة الغربية، ومن ثم يمكن أن نقول تمت "غَرْبَنَة" المسيحية، كما نرى اليوم أن الإسلام بدوره يخضع للأمركة أو العلمنة، أو غيرها من المصطلحات التي تشير إلى محاولة سرقة قيم دين معين وإخضاعها لنظام فكري آخر، لم يهنأ الغرب بهذا الانتصار الكبير سوى سنوات عجاف، حتى جاءت ثورة أخرى متمثلة في الإسلام، وينبغي الإشارة إلى أنه مع انتصار الجانب الذي أراد غربنة المسيحية، إلا أنه ظلت هناك بعض الفرق التي كانت لا زالت وفية للمسيحية الخالصة، وهو ما يسمى الكنيسة الشرقية، بعض هؤلاء كانوا بكل تأكيد موجودين في الجزيرة العربية.
الإسلام لم ينتصر للشرق ولا للغرب، بل جاء رحمة للعالمين حسب الآية الكريمة، بل يبدو أنه كما في آية الروم انتصر للغرب، وذلك لأنه رأى أن هؤلاء على الأقل ينتسبون لإبراهيم عليه السلام، إلا أن هذا الصراع سرعان ما سيعود يطفو على السطح، وذلك بمجرد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث إن الاختلافات البسيطة التي كانت بين الصحابة رضوان الله عليهم، سرعان ما تحوت إلى فرق، ومن ثم إلى تيارات سياسية، بعضها انتصر للغرب، كالأمويين على سبيل المثال، في حين فضل آخرون الانتصار للشرق كالعباسيين، وهكذا استمر الشرخ بين الشرق والغرب، ولم يستطع حتى الإسلام هدم هذه الهوة، وإن كانت دعوته واحدة للجميع كما سلف، إلا أن التجربة التاريخية كانت مختلفة.
هذا الأمر لم يتوقف بكل تأكيد طوال التاريخ، لكن الأحداث التي لا وما زالت ترسم واقعنا المعاصر اليوم، هي تلك المرتبطة بالأنوار والاكتشافات الجغرافية والعلم وغير ذلك، حيث إن الحضارة الغربية هذه المرة نادت بقيم وسعت إلى تطبيق نقيضها، أقصد هنا التناقض الذي سقت فيها الحضارة الغربية بين القيم الإنسانية، وسلوكات دولها المتوحشة، هذا الذي جعل العالم يدخل في تناقضات صارخة، وما يحدث اليوم في فلسطين إلا خير شاهد على ذلك، إلا أن ما يهمني هنا الجانب الفكري أكثر من الوقائع والأحداث، لأني أعتقد أن هذه بمثابة العلة لتلك.
السردية التي تبنتها إسرائيل منذ قيامها في الحقيقة لم تكن منفصلة عن العالم الجديد، لننظر على سبيل المثال لخطابات نتنياهو وهو يقوم بخطاب موجه للشعب الأمريكي، إنه لا يكتفي بالسردية التاريخية أي أن شعب إسرائيل تعرض للظلم والاضطهاد من قبل الغرب، ومن ثم يجب على هؤلاء توفير الأمن والغذاء والهواء أيضاً لهم، بل يقول بأن دولة إسرائيل هي سبيلهم الوحيد لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، وينبغي التأكيد هنا على كلمة ديمقراطية فهي لا تعني فقط طريقة في الحكم على وفق الأنظمة الغربية، بل تعني أيضاً درجة متقدمة في الوعي، أي أن الإنسان الديمقراطي هو الإنسان الأكثر تحضراً من غيره، الذي يرضى بنظام آخر، ومن هنا يأتي نقم الغربيين على الشعب الصيني، رغم أن أولئك حضارتهم أقدم من هؤلاء بشواهد التاريخ، إلا أن الغربيين ما زالوا مصرين على أن نظمهم هي أفضل من نظم أولئك، إنهم لا يدعون للنظام إنهم يدعون لقيمهم والتي يرون أنها هي أفضل القيم بكل تأكيد.
انتصار إسرائيل بدعم الغرب على العرب، لم يكن تفوقاً عسكرياً وعلمياً فقط، بل بالدرجة الأولى كان تفوقاً في درجة الوعي، ويمكن للقارئ العزيز العودة إلى تحليلات بعض المتخصصين في العلوم السياسية في تلك الفترة، والذين رأوا أن العرب أشبه بالمعاقين ذهنياً، وبعضهم الذي كان يرى أن هؤلاء ينتمون لعرق لا يرقى لعرقهم، ولا ينبغي أن تغيب عنا السردية التي تبناها اليهود، من أن العرب هم أبناء الأمة، وهم أبناء السيدة، هذه الفكرة طُعمت بالنقاشات العلمية ومن ثم تحولت إلى قناعات سياسية، على منوالها يقيم الغرب الشرق، وخاصة الشرق الأدنى، أو الشرق الأوسط، ومن ثم لم يكن انتصار إسرائيل عسكرياً فقط، بل علمياً بالدرجة الأولى، وهذا الأخير أي العلم ما هو إلا العقل في الأخير، والذي يمثل أحدث مرحلة في تطور البشرية حسب السردية المتعمدة في الغرب الآن، التي تعتمد في أسسها العلمية على نظرية داروين.
هناك أمر خطير فيما يخص الشعوب وهو الوعي، هذا الأخير مهما حاولت أي جهة التحكم فيها، إلا أنه سرعان ما ينفلت من بين يديها وكأنه زئبق، وهنا لا يصبح لا شرق ولا غرب أمام ضمير الإنسان، بل يصبح الإنسان هو المصدر، في الماضي ربما كان يسهل التحكم في هذا الأمر بل ربما ولو إلى حين، لكن اليوم أمام التكنولوجيا المتقدمة، يبدو أن هذه المسألة أصبحت في غاية الخطورة، ومن هنا يمكننا فهم ما يحدث الآن في أمريكا على ضوء هذا الأمر، حيث إن الغرب رغم الأموال الطائلة التي صرفت في تغطية الجانب الأيديولوجي بغية الحفاظ على مصالحه، إلا أنه فشل، وذلك لأن قضية الوعي لا يمكن التحكم فيها، حتى مع أحدث التكنولوجيات، بل هذا الأخير يبقى حراً طليقاً، حتى وإن خضع لكمون لفترة معينة، فإنه سرعان ما ينفجر.
ما قامت به المقاومة في فلسطين كان بمثابة فخ، أو كمين محكم يمكن القول اليوم إن الغرب فشل برمته في التعامل معه، رغم ما يتوفر لهم من معطيات تخص الشعوب، بينما هم يحاولون ضبط نبض الشعوب في الشرق الأوسط، إذا بسيل جارف يسيل عليهم من بين أيديهم ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم، هذه المقاربة التي تتبناها أمريكا اليوم والتي تبرز أنها شمرت عن عاقتها وأبانت عن حقيقة الأمر، وأنه لا حقوق ولا أخلاق ولا قيم هناك، إنه منطق القوة والصراع، لن يجعلها تعيش طويلاً، وما يهم هو سقوط السردية الإسرائيلية، لأن هذه الأخيرة تنتعش من تلك، وإذا أصبحت من الغطاء القيمي الذي كانت تتستر به، نشر الديمقراطية، أو التطور العلمي، فإنها لن تستطيع العيش بدونه لفترة طويلة، هذا هو الفخ الذي نصب لها.
هناك أمران مهمان فيما يخص الوعي، وهما الذاكرة والنسيان، نحن نعيش على ما نتذكر، ونقاد ربما بما ننسى، الأحداث التي تقود الإنسان وتحركه هي الأحداث التي تظل حية في ذاكرته، مهما كانت هذه الأحداث سواء محزنة أو مفرحة، الأحداث المحزنة تجعل الأفراد، الجماعات، الدول الطوائف، تحظى بعطف ودعم من قبل الباقين، بينما الأحداث المفرحة تجعل الفرد أو الجماعة على حد سواء، تتمتع بنوع من الاستقرار والتوازن النفسي، وهذا يضمن للفرد أو الجماعة العيش لمدة أطول بكل تأكيد، يهمني هنا الجانب الأول، وهو الذي ضمن لدولة إسرائيل تواجدها داخل الشرق الأوسط كل هذه المدة، لكن يبدو أن سردية الضحية لم تستطع أن تقنع أحداً في الغرب اليوم، وهذا واضح منذ البداية، حيث إن شخصيات عدة حاولت زيارة المكان الذي تعرض للهجوم، وذلك بغية الترويج للسردية القديمة، إلا أنه ليس في كل مرة تسلم الجرة كما يقول المثل العربي، لقد دخلت نفقاً سيصعب إن لم يكن يستحيل عليها الخروج منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.