أثناء متابعتي للأخبار المروّعة عن الحرب الوحشية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، لفتت انتباهي عناوين الصحف التي تتحدث عن عمليات تضامن ومظاهرات يتم قمعها، تنبع من داخل جدران جامعات أمريكية عريقة؛ مثل هارفارد، كولومبيا، وييل. هذه الجامعات، المعروفة بخريجيها من الرؤساء والبيروقراطيين والسياسيين الذين يديرون أروقة السلطة في الولايات المتحدة، تلك الإمبراطورية التي تهيمن على الكوكب بشكل معنوي ومادي، ها هي تشهد تحركات طلابها وأساتذتها في تظاهرات داعمة لفلسطين ومناهضة لسياسات البيت الأبيض الداعمة لإسرائيل، والتي لم تتزعزع منذ بداية الحرب.
جلست لأراقب صور الطلبة وأساتذتهم وهم يقفون صامدين أمام هراوات الشرطة التي تحاول إسكات أصواتهم وكبت حرياتهم. لم يكن المشهد مفاجئاً بالنسبة لي، فللجامعات الأمريكية تاريخ طويل في تنظيم المظاهرات ضد الحرب. لكن الذي أدهشني حقاً، عندما أعدت التفكير، هو وقوف هؤلاء الطلاب ضد السردية الرسمية لحكومتهم حول إسرائيل، ذلك الكيان المحتل الذي ظل لأكثر من نصف قرن يتمتع بدعم لا يتزعزع في أمريكا، وها هم الطلبة يطالبون بإيقاف الدعم له وإدانته.
إحدى الصور التي شدت انتباهي، صورة لفتيات يتزينّ بالكوفية الفلسطينية جالسات على الأرض، وبيد إحداهن كتاب لغسان كنفاني "ثورة 36 – 39 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل"، الذي يستعرض فيه كنفاني الثورة الفلسطينية والتحديات التي واجهها الشعب الفلسطيني: القيادات المحلية الرجعية، الأنظمة العربية المجاورة، والتحالف الإمبريالي-الصهيوني.
غسان كنفاني في أمريكا
شعرت حينها بأنني أشهد تبلور بداية جيل جديد يتطلع نحو العدالة بوعي أعمق. اليوم، غسان كنفاني في أمريكا! فكيف وصلت أفكاره إلى هناك؟
غسان كنفاني، المولود في عكا في التاسع من أبريل/نيسان عام 1936، لم يكن مجرد روائي وصحفي، بل كان أيضاً مقاوماً ومناضلاً سياسياً أفنى حياته في سبيل وطنه فلسطين وقضيتها، والتي أصبحت رمزاً للنضال في العالم العربي ولكل من يسعى نحو الحرية.
يرى الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد أن رواية كنفاني "رجال في الشمس" تُعد من أبرز أمثلة "الكتابة المقاومة"؛ إذ يعتبرها سعيد واحدة من أدق الروايات القصيرة في الأدب الحديث، حيث تمتاز بقدرتها الفائقة على مسح الفواصل بين اللغة والواقع وتغيير الواقع بالعاطفة.
هذه ليست مجرد خطابة رومانسية، بل هي نظرة عميقة إلى تأثير الفن على الوجدان الإنساني، حيث يخلق ما يمكن تسميته بـ"عاطفة الفن"، وهي قوة مادية قادرة على التأثير والتغيير. في كتاباته، نجح كنفاني في إيقاظ "عاطفة المقاومة" في الوعي العربي، نابعة من رحم التيه واليأس. يعبر عن هذا بقوة في (أرض البرتقال الحزين) حيث يكتب: "لا تمت قبل أن تكون نداً.. لا تمت".
هذه الكلمات البسيطة ربما يرى البعض أنها لا تصلح للاستهلاك في عالم الواقع، لكنها ربما ستكون مناسبة لأن تطبع باللون الأحمر على ظهر قميص فضفاض مع بنطال جينز من ماركة من بلاد العام سام، فحينها تصبح ذات قيمة تسويقية في عالم لا يعرف غير المال والتجارة والمزيد من العمل، فهذا ما يؤمن به البشر في واقعنا اليوم ويسير به عالمنا.
لكن جاءت كتابات كنفاني لا لتستقر كلماتها على القمصان أو تترجم فقط لتعتلي لافتات الاحتجاجات في العالم، بل كانت مليئة بالحبكة والقوة والإيمان بالحق لكي تؤجج عاطفة المقاومة في وعي الشعوب العربية وغيرها، فظلت تزرع في وعي أجيال مقولة تؤكد أن استعادة الحقوق من الاستعمار لا تأتي إلا بمقاومة المغتصب، لا بالاسترضاء، فصنع حيزاً ثقافياً ثورياً حتى وإن ظل على الهامش إلى حين، منتظراً أنصاف الفرص ليعيد بوصلة العدالة في العالم.
لقد سار غسان كنفاني في طريق مقاومة الاستعمار بشكل كامل، واستطاع ورود اللغة ليقلب المسافة بينها وبين والواقع، فطوع الأدب ليصبح عملاً مقاوماً يغير من حياة القرّاء، فلا يستسلمون للواقع المرير، ومن هنا ندرك أهمية وكيف تصنع عاطفة المقاومة التي تعبر عن الرغبة في التغيير الكامل، التغيير بواسطة الكلمة والتغيير بواسطة المقال، والتغيير بواسطة الرواية. ولذلك كان على غسان كنفاني أن يواجه مصير الاغتيال الذي وقّعت عليه بنفسها رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير.
لقد حاول العالم الرأسمالي بأنظمته القمعية نشر ثقافة الخنوع في البلدان، فتزايد عدد وسائل الإعلام التابعة وعدد مراكز الأبحاث للحكومات، وعدد المؤتمرات التي تعمل على نشر محاور لتلك الثقافة، لكن مع ما يفعله الفلسطينيون والطلبة في العالم اليوم ومع جريان العاطفة في الشوارع والجامعات اليوم حول العالم، يعطي أملاً أن بمقدار البشر إعادة توجيه بلادهم لصنع واقع أقل ظلماً وقهراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.