تُقصَف غزة كل يوم منذ أكثر من نصف عام، رغم ذلك لا تترك ثابتاً في هذه الدنيا إلا وتحركه نحو الحقيقة. أثر غزة ليس مجازاً بسيطاً كتأثير فراشة خفي، بل هو كطوفان هائج لا يمكن التنبؤ بأين سيستقر مداه. فبينما صوّتت إدارة بايدن مؤخراً لصالح تقديم مساعدات مالية جديدة للاحتلال الإسرائيلي لتستمر حرب الإبادة للفلسطينيين، بدأ الغضب يغلي في الشوارع ويتسرب إلى حرم الجامعات الأمريكية العريقة، التي طالما كانت معقلاً لتنشئة النخب السياسية والإدارية للإمبراطورية الغربية.
أمريكا تحارب أمريكا!، أكثر من 100 موقوف في جامعة كولومبيا. و في حدود العدد نفسه وربما أكثر من الطلاب والأساتذة يُقتادون وأياديهم مقيدة خلف ظهورهم إلى خارج جامعتَي نيويورك وييل، وهارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وغيرها من الجامعات الأمريكية التي انتقلت لها شعلة الاحتجاجات من أجل فلسطين.
تعيش الجامعات الأمريكية اليوم موجة من اليقظة الأكاديمية، مجددة الاهتمام بمقاومة الإمبريالية والاستعمار. ليس هذا بجديد في تاريخ الأكاديمية الأمريكية، فقد شهدت الجامعات خلال حرب فيتنام تفاعلاً ملموساً من الطلاب والأساتذة الذين كانوا ركيزة أساسية في تنوير الرأي العام بويلات الحرب الاستعمارية الأمريكية.
لم يشهد العالم مثل هذه الصحوة الطلابية في الغرب منذ عقود، خاصة في الجامعات النخبوية التي ينحدر طلابها غالباً من الطبقات العليا. تلك الجامعات بدأت تشهد تزايد التضامن مع القضية الفلسطينية وإدانة الاحتلال الإسرائيلي، وهو تحول يدعمه بقوة أعضاء الهيئة التدريسية والعاملون.
أما عن اللافت بحق في هذه الموجة الحالية، فهو معاداتها الصريحة للصهيونية وللسياسات الأمريكية الداعمة لها. وإنها تعبير عن عمل مستمر للصوت العربي الفلسطيني الذي يناضل منذ سنوات، رغم الضغوط السياسية والأمنية والإمكانيات المحدودة، لتسليط الضوء على القضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية. إضافة إلى ذلك، يمثل هذا الحراك الطلابي مكسب مهم من ضمن المكاسب غير المباشرة لـ"طوفان الأقصى" والمقاومة المستمرة والصمود البطولي للشعب في غزة.
كان صمود المقاومة الفيتنامية والتفاف شعبها حولها المحور الأساسي الذي حدد مسار الحرب، وفي نهاية المطاف، العامل الرئيسي وراء بدء الانسحاب الأمريكي من فيتنام ابتداءً من عام 1973. إلى جانب ذلك، لعبت الموجة الاحتجاجية العارمة في الجامعات الأمريكية دوراً كبيراً في التأثير على السياسات الاستعمارية للولايات المتحدة. فتحت هذه الاحتجاجات الباب على مصراعيه أمام العديد من المثقفين والناشطين للانخراط في النضال ضد الحرب؛ مما شكل أساس التناقضات الداخلية الأمريكية، التي أسهمت بدورها في إخفاق المسعى الأمريكي في فيتنام.
هذه التناقضات الداخلية، التي تُعد ثانوية في معسكر العدو، كان لها أهمية بالغة في تعميق جراحه وإعاقة مساعيه المركزية لمواصلة الاحتلال، وبالتالي، تفاقم التناقض الرئيسي له.
إن ما نراه اليوم من من أجل فلسطين من تعبئة غير مسبوقة وتضامن شعبي عالمي يرجع في المقام الأول إلى عدالة القضية الفلسطينية. فلقد شكلت المأساة الإنسانية المروعة والصور الجلية للإبادة المستمرة، المذاعة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، حجة قوية بذاتها تفرض نفسها على الضمير العالمي. فلقد أحدث طوفان الأقصى تحولاً جذرياً في الوعي تجاه القضية، خاصة بعد أن كانت الجهود الغربية والإسرائيلية بل وحتى الإقليمية العربية قد بلغت شوطاً كبيراً نحو محاولة تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
فكانت المقاومة الفلسطينية وشعبها في غزة، العنصر الحاسم في هذا التحول. فلو انهزمت المقاومة في الأيام الأولى للحرب، لربما اختلفت الأحداث تماماً، حيث كان من الممكن أن نشهد اليوم "إسرائيل" وحلفاءها يقسمون تركة غزة ويحددون مصيرها. بدلاً من ذلك، فإن الزخم العالمي الذي يتنامى حول قضية فلسطين اليوم، يعود في جزء كبير منه إلى الصمود الأسطوري للمقاومة وشعب غزة، الذين أظهروا تصميماً لا يلين على القتال والتحمل.
فلأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية، ظهرت قيادة تتشبث بمطالب شعبها، مكتسبةً بذلك احتراماً لا يقتصر على شعبها وحده بل يمتد إلى شعوب الأرض جمعاء. فما يدور في العالم اليوم، يؤكد حقيقة أن الإصرار على الحق هو السبيل الوحيد للتحرير؛ فمن يملك الحق، يكفيه أن يتمسك به ليعانق النصر، حتى وإن تجرع مرارة الهزيمة مراراً. هذه الحقيقة، التي عرفها وتشرّبها الشعب الفلسطيني، هي ما يرسخ اليوم أقدامه على طريق الحرية والعدل وإن عظم الألم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.