غزة الأرض والنضال.. غزة الأمل.. غزة المعاناة.. غزة مقبرة النساء والأطفال.. غزة الإبادة الجماعية.. غزة المجاعة الإنسانية.. جميعها مشاهد حية لشعب يواجه أعتى مجرمي البشرية في العصر الحديث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
حال غزة الآن مرآةً لحال الشعوب العربية التي ذاقت أهوالاً من حروب أهلية واستبداد وفاشية عسكرية دمرت حاضرها ومستقبلها لصالح بعض الموالين للغرب والفكر الاستعماري كي تبقى بلداننا في حالة موت إكلينيكي تحت نير دوامة من الديون اللانهائية والقمع والاعتقال والقتل والتشريد فأصبحنا جميعاً محاصرين.
لكن غزة تمكنت من تحويل المخططات الحديثة التي وُضعت لإعادة تشكيل منطقتنا العربية وفرض واقع جديد يسعى لمحو أي مسمى لفلسطين وحقوق شعبها إلى مجرد حبر على ورق، لذلك يحولوها إلى كومة من تراب الأنقاض في جرائم لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية وتدمير ألمانيا النازية. والتشبيه هنا يقتصر فقط على واقع الإبادة الجماعية والتدمير؛ فغزة ليست ألمانيا النازية، بل الاحتلال الإسرائيلي وقادة الغرب والعرب هم الذين يمكن وصفهم بالنازيين الجدد.
فالحرب في غزة حرب إبادة جماعية ضد الأمهات والأطفال، حيث بلغت نسبة الشهداء منهم حوالي 70% من إجمالي عدد الضحايا. فالاحتلال يستهدف أرحام الأمهات عمداً كي لا يلدن أجيال قادرة على المقاومة لاستعادة أرضها، ويسعى للقضاء على جيل كامل من الأطفال الغزيين حقيقة لا مجازاً. فوفقاً للأرقام الأممية والمحلية المُعلنة – دون احتساب آلاف الشهداء الذين لا يزالون تحت أطنان من ركام الـ60% من المباني في القطاع التي دُمرت بالكامل – فقد بلغ عدد الشهيدات من النساء حوالي أكثر من 10 آلاف امرأة، حيث تستشهد امرأتان كل ساعة، من بينهن نحو 6 آلاف أم تركن وراءهن حوالي 20 ألف طفل يتيم.
بينما تشير التقديرات الأممية إلى أن إزالة الركام الناتج عن الدمار يتطلب 14 عاماً للتخلص من حوالي 37 مليون طن من الحطام، بما يقارب 750 ألف يوم عمل.
بالعودة إلى الماضي ليس ببعيد، في عام 2017، حين بدأت ملامح صفقة القرن المشؤومة في الظهور إلى العلن. حين تحدث عنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقاء جمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وذلك بالتزامن مع إجراءات مصرية للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، ذواتي الأهمية الاستراتيجية في البحر الأحمر وقناة السويس، للسعودية في خطوة لبدء تطبيع سياسي بين المملكة والاحتلال الإسرائيلي. بالتوازي، بدأت الإمارات والبحرين في التطبيع طواعية مع الاحتلال الإسرائيلي هي أيضاً. أما السودان، الممزق بحرب أهلية ومجاعة، فقد أُجبر على التطبيع بإرغام إماراتي، بينما المغرب طبّع مقابل الحصول على اعتراف "الترامبي" ومن نتنياهو بمغربية الصحراء الغربية.
كانت هذه الصفقة المشؤومة برعاية مصرية، فبعد نحو 100 عام على وعد بلفور المشؤوم والانهزام العربي، وكأن الأنظمة العربية لا تأبى إلا، بالتفريط في أهم قضية عربية وإسلامية من أجل مصالح سياسية ضيقة.
تلك الصفقة، التي أُعلنت في يناير/كانون الثاني، 2020، كانت موجهة لنسف فلسطين وحق شعبها في أرضه المحتلة. وفي أواخر سبتمبر/أيلول 2023، صعد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة، قبل طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر بنحو أسبوعين، حاملاً خريطة للشرق الأوسط الجديد التي شملت دولاً مثل مصر والسودان والسعودية والإمارات والبحرين والأردن ملونة بالأخضر في دليل على الرخاء كجزاء للتطبيع، بينما ظهرت خريطة فلسطين وقد لونت بالكامل بالأزرق؛ لون الاحتلال.
لكن الإبادة الجماعية التي تحدث للغزيين اليوم دفعت شعوب العالم الغربي بشكل إنساني لرسم مشهد سريالي مناصرا للقضية الفلسطينية ومناهضاً للاحتلال لم يكن أحد يتخيله إلا من قبل الذين آمنوا بإنسانية الشعوب وقدرتها على التلاحم في المآسي والنضال. فرأينا كيف صنعت غزة جيلاً من الطلاب والشباب والأكاديميين الغربيين الذين يهتفون الآن للقضية الفلسطينية، بينما لم يكن كثيرون يعلمون عنها شيئاً قبل سبعة أشهر.
أرادوا أن يحولوا غزة مقبرة جماعية كبيرة تدفن فيها فلسطين للأبد فأصبحت مقبرةً لهم، وأصبحت نيران غزة تصل إلى بيوت الذين مولوا إبادتها، فها هو العالم يشاهد كيف اجتاحت الاحتجاجات الطلابية الجامعات الأمريكية، ويقف شاهداً على ملاحم خيالية للدفاع عن فلسطين، مواجهين نفوذ اللوبي الصهيوني الذي أطلق فوهات قمعه وهرواته وقنابل الغاز المسيل للدموع لكتم صوت الحقيقة و الحرية، ويعتقل ا الطلاب والأساتذة في مخيماتهم المُحَرَرة والمُحرِرة لفلسطين داخل حرمهم الجامعي.
ملايين الطلاب اليوم، في هذه الجامعات ينتفضون نصرة لغزة ولضميرهم الإنساني، وككرة الثلج هذا المشهد الإنساني السريالي يتدحرج إلى باقي البلدان الغربية. فقد انتفض الطلاب في جامعات كندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وأستراليا، معبرين عن تضامنهم مع غزة ومعبرين عن رفضهم للظلم والاحتلال.
صارت غزة مقبرة غزة تهدد بابتلاع عرش نتنياهو، الذي أصبح على شفا السقوط. وبالطبع ليس بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها فالنظام العالمي لا يبالي، بل بسبب فساده وفشله يوم 7 أكتوبر، فأهل الأسرى ومعهم أطياف متعددة من الإسرائيليين بما في ذلك منافسيه السياسيين يسعون لإسقاطه ومحاسبته. من جهة أخرى، الولايات المتحدة، الداعم الأكبر للاحتلال والتي تلطخت يدها بالإبادة الجماعية، تواجه مستقبلاً غامضاً؛ حيث يقف الرئيس جو بايدن أمام تحدي كبير في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ضد ترامب، فمستقبله السياسي على المحك، فالأصوات غير الملتزمة في الانتخابات التمهيدية واستطلاعات الرأي واستقالات مسؤوليه هي خير دليل على النيران الصديقة التي أطلقوها على غزة والتي رُدت إليهم. بينما في ألمانيا، انهارت مبادئ حقوق الإنسان لدولة لم تتعلم كفاية من ماضيها النازي، بل تصر على استكمال ماضيه الفاشي، بدعمها لاحتلال همجي يرتكب جريمة إبادة جديدة. أما عن بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، فتشهد أكبر تجمع بشري مناصر لفلسطين على مستوى العالم؛ فشوارعها وجامعاتها مزينة بالأعلام والشالات الفلسطينية، وتحول مجلس العموم إلى ساحة حرب بسبب غزة.
في رواق جامعة جورج واشنطن بالعاصمة الأمريكية، تتدلى صورة يعرفها الجميع؛ إنها صورة جورج واشنطن، الأب المؤسس وأول رئيس للولايات المتحدة، بطل حرب التحرير الأمريكية ضد السيطرة البريطانية. ولكن هذه المرة، يظهر واشنطن متشحاً بكوفية فلسطينية، رمز المقاومة والتحرر، وفي المقابل، ونرى مشهد نتنياهو مهزوماً وهو يمسك خريطة الشرق الأوسط الجديد، واتفاقيات التطبيع في إطار صفقة القرن التي تكشف كيف أرادوا القضاء على غزة، فغزت هي العالم أجمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.