العنوان لوحده ليس كافياً لشرح الموضوع.. وقد يفهم القارئ من العنوان أن دولة أمريكا في حرب حقيقية ضد أمريكا؛ ويعني ذلك أن أمريكا تخوض حرباً عسكرية مع شعبها، ومثل هذا المعنى يرسم صورة في ذهن القارئ يتخيل أن الدبابات الحربية تنتشر في الشوارع والطائرات العسكرية تحلق في سماء الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الجيش ينتشر كلياً في جميع الولايات. ويكتمل المشهد الذهني ببايدن وهو يخبر الشعب الأمريكي رسمياً باندلاع الحرب من البيت الأبيض مباشرة.
وفهم القارئ منطقي قياساً على مفردات العنوان في تركيبتها المجازية. وينشأ من هذا الفهم تساؤلات عقلانية يطرحها القارئ: كيف يعلن بايدن حالة الحرب على الشعب الأمريكي؟ وكيف استطاع الجيش خوض هذه الحرب المتخيلة مع الشعب؟ أليس من المفترض أن تكون المؤسسة العسكرية للدفاع عن الشعب في حال التهديد الخارجي؟ ومن هذه التساؤلات ينشأ إشكال يتعلق بطبيعة الدولة ومؤسساتها والنظام الذي تعمل به مؤسسات هذه الدولة لتبدأ الشكوك حول الديمقراطية.
خيال القارئ الكريم لا يبحر عن الواقع.. فإدارة بايدن بطريقة ما أعلنت الحرب على الشعب الأمريكي والجيش كذلك مارس القوة مع الشعب، وهنا أتحدث بشكل واضح عن الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت من الجامعات الأمريكية وبدأت تتزايد. هذه الأحداث الأخيرة وردود الفعل من قِبَل أجهزة الأمن الأمريكية هي اعتداء على حرية التعبير والتظاهرات التي يحفظها الدستور الأمريكي للمواطنين بصورة خاصة وللإنسان انطلاقاً من الرؤية الليبرالية وحقوق الإنسان بشكل عام.
حملة اعتقالات الطلاب المعتصمين بساحات الجامعات لا يمكن تفسيرها إلا في سياق واحد وهو أن الأجهزة الأمنية قد أصبحت أجهزة للقمع والاعتداء المتواصل على الطلاب الثائرين يثبت للعالم بأن الأجهزة الأمنية الأمريكية اليوم تقف ضد الشعب، ونظراً لمثل هذه السلوكيات فقد ترتب على ذلك انضمام الأساتذة ورؤساء الأقسام إلى الطلبة كنوع من التضامن. وهنا يجب التأكيد على أن المؤسسة التعليمية قد نظرت حول الحرية وحقوق الإنسان وتاريخها يحفظ ذلك لذا جاء التضامن.
وبالطبع هناك وجهات نظر مختلفة بين الأكاديميين في الجامعات الأمريكية؛ نظراً للموقف والانتماءات السياسية ما بين اليسار واليمين ونسبة التطرف في كل جانب؛ ويوضع في الاعتبار مواقف بعض الأكاديميين اليهود الذين يجدون الحق الشرعي لقيام دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني وأرضهم المحتلة ويربطون الخطابات المعادية للاحتلال إسرائيلي بفكرة معاداة السامية كونها متجذرة في تاريخ أوروبا الحديثة ومجازر النازيين في القرن الماضي، ومن هنا يدافعون بشراسة عن إسرائيل.
هذا الدفاع غير مبرر من الناحية الأخلاقية ولا يتطابق مع التاريخ السياسي لدولة الاحتلال وجرائمهم ضد الشعب الفلسطيني. وهنا يبرز صوت آخر يختلف جذرياً وسياسياً مع هولاء الأكاديميين أصحاب النزعة الصهيونية المعارضين لأي تظاهر سياسي ونضالي للدفاع عن الفلسطينيين ويفسرون مثل هذه الخطابات بأنها معاداة للسامية، وهنا التناقض الكبير والازدواجية الغربية حين يتعلق الأمر بإسرائيل تنتهي منظومة القيم وخطابات التنوير ويصبحون أدعياء للشمولية والاستبداد. وهذا ما نشاهده لتلك الخطابات الإمبريالية الخارجة من المؤسسات التعليمية داخل أمريكا المدافعة عن إسرائيل.
هذه الاحتجاجات التي بدأت من حرم جامعة كولومبيا واتسع نطاقها إلى جامعات أمريكية لها مبرراتها الأخلاقية والسياسية. كما أن مطالب الطلبة المعتصمين بحرم الجامعات الأمريكية مقبولة من حيث المبدأ السياسي فهم يريدون الضغط على إدارة جامعاتهم بهدف اتخاذ موقف من الإدارة الأمريكية لوقف دعمها الشامل لبنيامين نتنياهو ومساندته لمواصلة مجازره في غزة وهذا المبدأ نبيل، كما أن الطلبة يطلبون من إدارة جامعاتهم بسحب جميع الاستثمارات في إسرائيل وإلغاء الشراكات الأكاديمية معها.
تظاهرات الطلبة يمكن اعتبارها حراكاً سياسياً يدافع عن المبادئ الديمقراطية التي احتوتها المؤسسات الأكاديمية الأمريكية يوما ما ودافع عنها الأساتذة المنتسبون في تلك الجامعات، والآن بدأت إدارة هذه الجامعات بممارسة القمع ضد الطلاب الذين يدافعون عن حقوق الإنسان باسم الديمقراطية وقيمها الموروثة عن شعارات التنوير والثورة الفرنسية ومفهوم العقد الاجتماعي الذي نظر عنه توماس هوبس، والحرية التي دافع عنها جون لوك ومؤسسات الدولة المدافعة عنها كما تخيلها الفيلسوف العقلاني، ليس هذا فحسب بل هم ينطلقون من فلسفة العقد الاجتماعي التي طورها جان جاك روسو، وانطلق منها هؤلاء الطلبة المعتصمون في جامعاتهم حتى تلبية مطالبهم. وهو اعتصام تحفظه الديمقراطية ومقبول من حيث الأخلاق والسياسة.
لنعُد إلى العنوان.. أمريكا تحارب أمريكا هذا ليس مجازاً. فإذا ما أمعنا النظر، سنجد أمريكا تحارب شعبها باستمرار وأدوات تلك الحرب متعددة. تارة تحارب الشعب بأدوات النظام الرأسمالي الجشعة وتارة تحاربهم بمؤسساتها الإعلامية التي استلبت الفرد الأمريكي وألقت به داخل السوق وجعلته إنساناً ذا البعد الواحد بلغة الفيلسوف الألماني – الأمريكي هربرت ماركوزه. وفي السياسة تواصل أمريكا حربها ضد شعبها الذي تضلله بشعارات الحرية والإنسان والديمقراطية، بينما في المقابل إذا همّ بالخروج عن نطاق المصالح البرجوازية الأمريكية مارست عليه القمع والتنكيل وتحولت أجهزة الدولة إلى أدوات شمولية لقمع الحريات، وهذا ما نشاهده في هذه الاحتجاجات.
إدارة بايدن تدّعي أن هذه الاحتجاجات معاداة للسامية ونتنياهو يشبهها بالحقبة النازية. وإدارة الجامعات الأمريكية تبنت هذا الموقف واختارت قمع طلابها بالتنسيق مع الشرطة بدلاً من السماح لهم بالتظاهر دفاعاً عن القيم الديمقراطية كما يعتقدونها. ولكن إدارة بايدن متواطئة في هذا الصراع، وهي الحليف الرئيسي لإسرائيل، وهي الداعم لنتنياهو القاتل الشرس المسؤول عن دماء الشعب الفلسطيني، وهذا هو النفاق الغربي، وهذه هي أمريكا!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.