لم يعد هناك مجال للشك في التغيير الجذري الحاصل والذي يحصل الآن في العواصم الغربية تجاه ما يحدث في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ودعوات الوقف الفوري لإطلاق النار وإدانة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في فلسطين، وبعد مرور أكثر من 6 أشهر من العدوان الوحشي على قطاع غزة المحاصر، والذي نتج عنه استشهاد أكثر من 35 ألف فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال، باتت الرواية الفلسطينية المحرك الرئيسي لفكر الشارع الغربي وما نتج عنه من تضامن غير مسبوق مع القضية الفلسطينية، ومن قلب بعض النخب الحاكمة.
ما يجري الآن في الجامعات الأمريكية من مظاهرات طلابية حاشدة تدعو لوقف إطلاق النار في غزة وقطع كافة الاستثمارات المالية المستمرة في الجامعات، والتي تدعم الشركات ذات الجهد العسكري الإسرائيلي في غزة، ما هو إلا رد فعل طبيعي في ظل الهيمنة الغربية على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وتقييد الحريات ومنع المحتوى الفلسطيني أو أي محتوى آخر يشجع على الوقوف إلى جانب الفلسطينيين.
من الشارع إلى حرم الجامعة.. نقطة تحول كبرى
تاريخياً ومنذ اندلاع ما يسمى بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي كانت هناك دوماً أصوات داعمة ومؤيدة للرواية الفلسطينية في العديد من العواصم الغربية، مستندة في ذلك إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره أو ما نتج عن الأمم المتحدة من قرارات تدعو لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 وغيرها من إفرازات المجتمع الدولي المنافق، ولكن عندما نأتي للحديث عن طوفان الأقصى وما رافق هذه الحرب من تحول دراماتيكي في سلم الأولويات العالمية والذي كان يدعو إلى الدعم المطلق للحليف الاستراتيجي إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول كخطوة ليست بجديدة على المجتمع الدولي، إلى دعوات لقطع كافة أنواع هذا الدعم في فترة زمنية قياسية في عالم الحروب.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 شهدت الساحة العالمية وخصوصاً أوروبا وأمريكا موجة من المظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، والتي وصلت لمئات من المظاهرات التي اتخذت أشكالاً كثيرة للتعبير عن حرية الرأي وإظهار الدعم للفلسطينيين بشكل سلمي وسلمي جداً، وهذا ما حصل في كل من باريس وجنيف ولندن وأمستردام ولشبونة والعديد من العواصم الأوروبية الأخرى التي لم تعتد على مثل هذا النوع من الدعم غير المسبوق للقضية الفلسطينية، لتتحول لطوفان آخر يرافق طوفان الأقصى في تصحيح بوصلة التاريخ المنحرفة، في الآونة الأخيرة امتدت حدة هذه التظاهرات لتصل لأعرق الجامعات الأمريكية، بعد أن اجتاحت موجة عارمة من الاحتجاجات كلاً من لوس أنجلوس ونيويورك وواشنطن، مروراً بأوستن وبوسطن وشيكاغو وأتلانتا، كلها طالبت بوقف فوري لإطلاق النار تحت شعار (Cease fire now) وإدخال المساعدات العاجلة لقطاع غزة في ظل ادعاءات واهية من تخوف بين الأوساط الأمريكية من تحول هذه الاحتجاجات إلى مشاهد عنف وتحريض على الكراهية ضد اليهود، في مشهد غير مسبوق في البلد "الأكثر حرية في العالم".
في زحمة هذه الأحداث أتت الرياح بما لا تشتهي سفن النخب الحاكمة في بلاد العم سام، نعم لقد امتدت هذه الاحتجاجات إلى الجامعات الأمريكية، ونحن نتحدث عن الأعرق والأكثر نفوذاً على الإطلاق مثل هارفرد وييل وكولومبيا برينستون، وهو ما يعيد للأذهان الاحتجاجات على حرب فيتنام، ولكن هذه المرة بشكل غير مسبوق ونكهة جديدة عنوانها الرواية الفلسطينية، وأثارت هذه الاحتجاجات المستمرة منذ أسابيع ردود أفعال متباينة في الأوساط السياسية الأمريكية، وفي حين ندد البعض بحدوث تجاوزات تشمل شماعة "معاداة السامية"، حذر البعض الآخر من انتهاك الحريات مع لجوء بعض الجامعات للقوة وفض الاعتصامات واعتقال مئات الطلاب.
مكارثية بنكهة معاداة السامية
نجحت الولايات المتحدة الأمريكية تاريخياً في احتواء العديد من مظاهر الاحتجاج والاعتصام المشابهة لما يحدث الآن في الجامعات الأمريكية، وذلك من خلال المكارثية القائمة على رفض الآخر دون أدلة واضحة وصريحة، وهذا فكر عكفت عليه الولايات المتحدة كثيراً، وهنا بات استخدام المصطلح الأكثر جدلاً في الآونة الأخيرة أمراً لا مفر منه، وهو "معاداة السامية" لكل من يدعو لوقف إطلاق النار أو دعم القضية الفلسطينية .
بلا أدنى شك أن معاداة السامية ليس لها أي علاقة مع الاحتجاجات القائمة الآن في الجامعات الأمريكية، وهذا برز من خلال مشاركة العديد من الطلاب اليهود في هذه الاعتصامات، وقاموا بنصب الخيام في حرم الجامعات كما حصل في جامعة كولومبيا وهارفرد التي استطاعت مؤخراً نزع قرار يسمح للاحتجاج داخل الحرم الجامعي، وهو ما شاهدناه من خلال فرحة وهرولة الطلبة لنصب الخيام والانضمام لبقية الجامعات الأخرى، إذاً لا يمكن القول إن كل من يمارس حقه في الاحتجاج السلمي أو التعبير عن الرأي أنه معادٍ للسامية، بل على العكس من ذلك تماماً، يرى القائمون على هذه الاحتجاجات أن معاداة السامية هي جزء لا يتجزأ من المعاناة التي تعرض لها اليهود، ونتيجة لذلك يسقط أي ربط لمعاداة السامية بما يحدث الآن في غزة، كما أنه ليس مبرراً للتغاضي عن الجرائم التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
انتصار فلسطين في معركة الجامعات الأمريكية.. من يقود الحراك؟
لا داعي للتكهن حول من يقود الحراك الآن في الجامعات الأمريكية، فبحسبة بسيطة يمكنك أن تعلم أن النخب الطلابية هي من تقود هذا الحراك الهائل، ولكن عن أي نخب نتحدث؟ هذا تساؤل مشروع جداً عندما ننظر إلى جامعات مرموقة مثل هارفرد وكاليفورنيا وكولومبيا وأنديانا، التي تعتبر تاريخياً المطبخ العالمي لإنتاج النخب السياسية الحاكمة في واشنطن والعالم، أي إن خريجي هذه الجامعات هم من سيقودون الولايات المتحدة الأمريكية مستقبلاً، وفي كافة المجالات، هذا يعني تحولاً عميقاً ومرعباً لما يحمله هؤلاء الطلبة من فكر معارض للاحتلال الإسرائيلي ودعوات لإقامة الدولة الفلسطينية، وهذا يعني أيضاً نسفاً لكل الجهود والمحاولات الحثيثة التي كرست من أجل ترسيخ الفكر الصهيوني وسرديته الملفقة لهؤلاء الطلبة منذ سنوات طويلة، وبالتالي لا يمكن التقليل من شأن هذه الاحتجاجات على الإطلاق، وعلى الرغم من توقعنا المسبق من أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تنجح في النهاية من احتواء هذه الاحتجاجات إلا أنها فتحت فصلاً جديداً من كتاب نهاية الصهيونية.
ردة فعل مفرطة!
في الحقيقة لا يمكن إدراك حجم الكارثة إلا عندما نرى ردة الفعل تجاه هذه الكارثة كما يقال، وهذا ما يمكن ملاحظته ومشاهدته بشكل واضح من خلال ردة الفعل المفرطة من قبل قوات الشرطة وقوات القضاء على الشغب التي تم استدعاؤها من أجل القبض على المتظاهرين، وفي السياق، عبّر مشرعون ديمقراطيون بولاية جورجيا عن قلقهم البالغ إزاء تقارير عن استخدام الشرطة قوة مفرطة في حرم جامعة إيموري، وقال المشرعون إن استخدام الشرطة أساليب مكافحة شغب متطرفة يعد تصعيداً خطيراً، كما أعلنت منظمة "فلسطين القانونية" أنها قدمت شكوى اتحادية متعلقة بالحقوق المدنية ضد جامعة كولومبيا عقب اعتقال عشرات المحتجين المناهضين للحرب على غزة الأسبوع الماضي، بعد أن استدعت الجامعة الشرطة لفض الاعتصام.
إذاً هناك تحول كبير وكبير جداً في الرأي العام الغربي وخصوصاً الأمريكي، تجاه ما يحدث في فلسطين وغزة، وهو تحول يحمل في طياته عاصفة تغيير لا محالة، كما يظهر الوجه الحقيقي للديمقراطية الغربية القائمة على التمييز العنصري تجاه قضايا العالم، فبينما تعتبر القضية الفلسطينية مشكلة لاجئين ينظر إلى معاداة السامية على أنها أم القضايا!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.