إن الحديث عن حراك الجامعات الأمريكية، يذكرنا بالكتاب الشهير للمنظّر السياسي الفرنسي الأرستقراطي الذي كان يميل فكره السياسي بين اليسار العقلاني والليبرالية ذات النزعة الاستعمارية ألكسي دو توكفيل، عند زيارته لأمريكا في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر بعد الغزو الفرنسي للجزائر عام 1831، حيث زار القارة كما يلقب الأمريكان بلدهم: The continent، ألّف ألكسي دو توكفيل كتاباً تحت عنوان: "الديمقراطية في أمريكا". تطرّق فيه لجوانب اجتماعية وعرقية ودينية؛ في رحلته إلى أمريكا ما بين عامي 1831 و1832، حيث اكتشف ألكسي دو توكفيل في العالم الجديد آنذاك (أمريكا) والثورة الحقيقية التي تسعى لرفاه الإنسان وازدهار مجتمعاته والمساواة وتكافؤ الفرص وقواعد القانون، وبعبارة معاصرة الحلم الأمريكي.
حراك وعراك
منذ أسابيع تشهد الجامعات الأمريكية حراكاً طلابياً متصاعداً بدأ من جامعة كولومبيا الراقية في مدينة نيويورك، دعماً لصمود الشعب الفلسطيني الأعزل بعد مرور أكثر من 200 يوم على عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. وتأتي هذه الاحتجاجات داعيةً لوقف سياسة الأرض المحروقة والتطهير العرقي وجرائم الإبادة الإسرائيلية، وإنهاء العدوان الفاشي وسياسة التمييز العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا الحراك الطلابي غير المسبوق منذ حرب فيتنام في نهاية ستينيات القرن الماضي، والذي نما بشكل غير متوقع، حيث يقوده طلاب من مختلف جامعات النخبة في أمريكا ويواجه رداً قمعياً عنيفاً من السلطات المحلية في ولايات تكساس وفلوريدا وكاليفورنيا.
مما زاد من ارتفاع الاحتجاج في جامعات أخرى بمدينتي بوسطن كامبريدج بولاية ماساشوستس، حيث التحق طلاب كل من جامعة هارفارد والمعهد التكنولوجي بماساتشوستس. تُعتبر هذه المؤسسات العلمية خزان النخب الأمريكية في مجالات السياسة والاقتصاد والمؤسسات المالية. على سبيل المثال، تخرج من جامعة هارفارد في كامبريدج التي تتمتع بسمعة عالية، ثلاثة رؤساء أمريكيين من الحزب الديمقراطي هم: جون كينيدي، وبيل كلينتون، وباراك أوباما، كما تخرج أيضاً رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو من المعهد التكنولوجي بماساتشوستس، الذي يحظى بسمعة عالمية يعلمها الجميع.
انضم طلاب جامعة هارفارد والمعهد التكنولوجي في ماساتشوستس إلى حركة الاحتجاجات المناصرة لغزة، معرضين بذلك مستقبلهم المهني والسياسي للخطر، الذي بات مهدداً من قبل اللوبي الصهيوني في أمريكا ومن قبل بنيامين نتنياهو الذي وصف الاحتجاجات الطلابية بأنها تذكره بألمانيا النازية.
في مدينة بوسطن، وتحديداً بين كامبريدج وبوسطن حيث يجري نهر تشارلز، انضم طلاب كلية إيمرسون أيضاً إلى الحراك الطلابي الواسع الذي يعكس الفجوة الكبيرة بين الشعب الأمريكي والنخبة السياسية الفاشلة المدعومة بملايين الدولارات من اللوبيات الصهيونية وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك). هذا الحراك الطلابي يُظهر كيف أن الأمريكي العادي، مثقل بديون العقارات والسيارات وتكاليف تعليم الأطفال في الكليات، يجد نفسه محصوراً بين متطلبات الحياة المزدحمة والرفاهية التي تناولها ألكسي دو توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أمريكا".
هذا الفجوة ساهمت في دفع القوى الطلابية إلى رفع صوتها في صرخة ثائر ضد هذا الوهم الأمريكي أو ما سماه مالكوم إكس "الكابوس الأمريكي"، وضد السياسة المنحازة لإدارة الرئيس بايدن التي تدعم عدوان جيش الاحتلال على الفلسطينيين. تتموضع الأغلبية من نخب الحكم في كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، في موقف الخضوع لغطرسة رئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي. في هذا السياق، كانت تصريحات رئيس مجلس النواب المتطرف وعضو الحزب الجمهوري من ولاية لويزيانا، المنتمي للتيار الصهيونية الإنجيلية في واشنطن، مايك جونسون، التي يصف فيها العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة بأنه حرب دينية.
من درج باب جامعة كولومبيا، دعا بصوت قوي لاستقالة رئيسة جامعة كولومبيا، البروفيسورة نعمت شفيق، ذات الأصول المصرية، رغم استماتتها في الحفاظ على منصبها ومحبتها لأهواء اللوبي الصهيوني، ووقوفها ضد طلاب جامعتها وحريتهم، و دعت شرطة نيويورك لاقتحام الحرم الجامعي. وهذه خطوة ليست هينة، فجلب الشرطة لقمع الطلاب في أرقى الجامعات في العالم، خطوة تضرب حرية التعبير. وصارت الشرطة الأمريكية اليوم، تقوم بالاعتداء على طلاب الجامعات الأمريكية من الشرق إلى الغرب مروراً بالجنوب. كما ألقي القبض على البروفيسورة نويل مكافي، رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري في أتلانتا، بولاية جورجيا. وتحت شعار الديمقراطية الأمريكية، قامت الشرطة بضرب الطلاب الأمريكيين في الجامعات في جميع أنحاء الفيدرالية؛ وكأن كل ذلك يحدث في جامعات دول عربية أو إسلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الحراك الخاطف
ما ينبغي أن ندركه هو أن الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية المرموقة، من هارفارد في كامبريدج إلى ستانفورد في كاليفورنيا، مروراً بجامعة ميشيغان وأوهايو بالشرق الغربي وصولاً إلى فلوريدا وتكساس، ليس مجرد تحرك عابر كما في دوري الجامعات الأمريكية لكرة السلة، المعروف بجنون مارس/آذار. بل هذا الهجوم بمثابة صحوة أبريل/نيسان، التي تقف في وجه جنون الصهاينة في إدارة الرئيس بايدن والحكومة الدينية العنصرية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. وترتفع حدة الاحتجاجات في حرم الجامعات الأمريكية كل يوم أكثر وأكثر، بل تتوسع وتنتقل لجامعات أخرى، وكل هذا يصب في الضغط على الرئيس جو بايدن، الداعم لدولة الاحتلال، والمقبل على انتخابات رئاسية بعد أقل من 5 أشهر، يشعر بأنه على أعتاب نهاية مشابهة لحرب فيتنام.
فهل نتجه نحو سيناريو مماثل؟ الجواب ربما سنعرفه في أغسطس/آب القادم عند انعقاد مؤتمر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي في شيكاغو، إلينوي، حيث يتوقع أن يتجمع مئات الآلاف من المتظاهرين من المنظمات الشبابية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني. هذا التجمع في شيكاغو، المدينة التي تتحول إلى منصة لممارسة ضغوط هائلة على المؤسسة الحزبية داخل الحزب الديمقراطي، بات يشكل مصدر قلق وخوف للإدارة الحزبية والبيت الأبيض، مثيراً مخاوف من تكرار سيناريو مشابه لصيف 1968 الذي حدث خلال مؤتمر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي. فخلال ذلك المؤتمر، ستتم تزكية المرشح الفعلي للحزب لخوض معركة الرئاسيات الأمريكية لعام 2024 في نوفمبر/تشرين الثاني، لذلك، بات "الاستبلشمنت" في الحزب الديمقراطي يخشى تلك الحركة الاحتجاجية أكثر من أي وقت مضى في ظل تدهور مصداقية مرشح الحزب لدى الناخب العربي والمسلم، وبشكل خاص لدى فئة الشباب في الولايات المتأرجحة مثل ميشيغن، ويسكونسن، بنسلفانيا، كولورادو، وأريزونا، وربما حتى ولاية فرجينيا.
طلاب الجامعات الأمريكية ينادون بالعدالة لفلسطين
من بوسطن، عاصمة ماساتشوستس، إلى أوستن، عاصمة ولاية تكساس، نرى القمع ينال كل طلابها الداعمين لفلسطين، وها هي جامعة ستانفورد المرموقة، يواجه طلابها أيضاً قمع شرطة مدفوعة من حكومة ديمقراطية تدعي وقوفها مع الحرية، وإذا بها هي تقمع نخبتها الطلابية وحريتهم، وتقف لا أمام حريتهم فقط، بل ضد الرأي الشعبي العالمي المتزايد لدعم الشعب الفلسطيني الذي يعاني من بطش وهمجية قوات الاحتلال الإسرائيلي.
في الولايات المتحدة، تعد الجامعات المرموقة ملجأً لأبناء الأسر الثرية من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك أبناء الأغنياء من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هذا إذ استثنينا بعض المنح الدراسية التي توفر أحياناً كفرص للتعليم العالي لأبناء الأسر ذات الدخل المحدود.
اليوم يخرج طلاب هذه الجامعات المرموقة وغيرها في احتجاجات تذكر بتلك التي شهدتها حرب فيتنام وحركة مكافحة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ومن المتوقع أن تمتد هذه الاحتجاجات إلى جامعات أخرى في العالم الغربي. ومن الجدير بالذكر أن عدداً من أعضاء هيئة التدريس والطلاب اليهود يشاركون في هذه الاحتجاجات، ما يدل على أن مناهضة سياسات حكومة دولة الاحتلال الصهيوني لا تعد معادية للسامية، وتدحض كل المزاعم الكاذبة التي يروجها الاحتلال.
بناءً على ما تقدم، يُظهر الحراك الذي يجري في الجامعات الأمريكية، وخاصة تلك المنضوية تحت مجموعة "Ivy League"، وعياً وفخراً لهذا الجيل من الشباب الذي كان يُتهم سابقاً بالأنانية والنرجسية والكسل، ويُعرف بـ"جيل لماذا؟" أو "Generation Why". وإن تعميم حراكهم السلمي تضامناً مع الفلسطينيين في غزة ورفضاً لسياسات إدارة الرئيس بايدن، المشاركة في حرب الإبادة التي تشنها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي بسلاح ودعم وغطاء عسكري ودبلوماسي واستخباراتي أمريكي بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين، هو صحوة ضمير في صفوف نخبة طلائعية من الطلاب والأساتذة والمثقفين وصناع الرأي، وسيكون لها في المستقبل دور زاهر. عندها، قد تقوم ثورة حقيقية سلمية من شأنها تعزيز رفاه الإنسان وازدهار المجتمعات والمساواة وتكافؤ الفرص وقواعد القانون من أجل ديمقراطية عادلة في أمريكا وإنقاذها من الاستبداد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.