تحدّث الكثيرون عن انقلاب في مزاج الناخب التركي على رئيسه وحزبه الحاكم، فأراد معاقبته في الانتخابات البلدية التي جرت في 31 مارس/آذار 2024 بعدما أعطاه صوته وولاءه طيلة 22 عاماً.. فهل عبّر الناخب التركي عن رغبته بعودة العلمانية الأتاتوركية بما منحه لحزب الشعب الجمهوري من أصوات؟ وهل يمكن أن ننظر إلى هذه الانتخابات على أنّها مؤشّر لهذا الانقلاب الكبير في مسار الحكم وصورة الدولة التركية؟ وما تأثير هذه النتائج على السياسات التركية الداخلية والخارجية، ومستقبل حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بشكل خاص؟ وهل يكون فاتح أربكان وحزب الرفاه من جديد هو الوريث المنتظر للعدالة والتنمية التي حكمت تركيا منذ 2002؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها كانت مثار جدل وبحث وتساؤل لدى المواطن التركي والعربي على حدٍّ سواء، كما على مستوى المهتمّين بالشأن التركي في العالم كلّه.
الخارطة الانتخابية الجديدة
إنّ قراءة متأنّية للخارطة الانتخابية التي أفرزتها الانتخابات المحلية الأخيرة تظهر أنّ حزب الشعب الجمهوري فاز برئاسة 36 بلدية: 15 مدينة كبرى و21 محافظة، مقابل 23 بلدية، منها 11 مدينة كبرى و12 محافظة لحزب العدالة والتنمية، فيما حصل حزب مساواة وديمقراطية الشعوب ذي التوجّهات الكردية برئاسة 11 بلدية، منها 3 مدن كبرى و7 محافظات، وتدنّت حصيلة البلديات التي فاز بها حزب الحركة القومية برئاسة الشريك الحكومي الثاني دولت بهشلي من 11 بلدية إلى 8 بلديات كبرى، في الوقت الذي قفز فيه حزب الرفاه من جديد ليحصد عدداً من البلديات الصغرى، إضافة إلى بلديّتين لمدينتين كبيرتين، إحداهما بلدية شانلي أورفا، بنسبة أصوات 38.9%، منتزعاً رئاستها من حزب العدالة والتنمية الذي كان قد فاز بها في انتخابات 2019 بنسبة لافتة هي 80.8%. وهكذا تُظهِر الصورةُ العامّة لنتائج هذه الانتخابات صعود المعارضة التركية، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، وتراجع حزب العدالة والتنمية وحلفائه.
تركيا بين مسيرة حزبين
صحيح أنّ حزب العدالة والتنمية لم يترك الحكم منذ تولاه عام 2002، غير أنّ الصحيح أيضاً هو أنّ شعبية هذا الحزب الذي حقّق نجاحات كبيرة في السياسة والاقتصاد ووضع تركيا في مصافّ الدول المحورية التي يحسب لها ألف حساب، تشهد تراجعاً ملحوظاً في عدد الأصوات وحجم التأييد منذ الانتخابات البلدية عام 2014 التي حصل فيها حزب العدالة والتنمية على رئاسة 50 بلدية كبرى، ليتراجع بشكل دراماتيكي إلى 39 بلدية كبرى عام 2019 ثمّ إلى 23 بلدية كبرى في هذا العام، على عكس الصعود التدريجي لحزب الشعب الجمهوري الذي فاز عام 2014 برئاسة 13 بلدية كبرى، ليراكمها عام 2019 إلى 21 بلدية، ثمّ إلى 35 بلدية كبرى في هذه الانتخابات، دون أن نغفل أنّ حزب العدالة والتنمية خسر في الانتخابات البلدية الأخيرة عدداً غير قليل من معاقله التاريخية، مثل بلديات "مانيسا" و"بورصة" و"بارتين" و"بالكسير" و"دينزلي" وعشرات البلديات التي يخسرها لأول مرة في تاريخه، كولاية "أديامان" معقل جماعة "المنزل" الصوفية الموالية لأردوغان! فما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا التراجع غير المسبوق؟!
قراءة في نتائج الانتخابات
لا يمكننا الجزم بأنّ الانتخابات البلدية الأخيرة كانت انقلاباً في مزاج الناخب التركي على الحزب الذي أعطاه أصواته طيلة 22 عاماً، ولا التأكيد على رغبة هذا الناخب بعودة العلمانية الأتاتوركية بما أعطاه لحزب الشعب الجمهوري من أصوات، لأنّ هذه الانتخابات نفسها شهدت صعوداً موازياً لحزب الرفاه من جديد، ذي التوجّه الإسلامي، الذي لا يملك إنجازاً غير بنوّة رئيس الحزب لـ"أبي الإسلام السياسي" نجم الدين أربكان رحمه الله تعالى، ومواقف إعلامية ينادي فيها الحزب بالمحافظة على الأسرة والقيم، ومحاربة المثلية، ودعوة الحكومة إلى اتخاذ مواقف أكثر فاعلية لصالح القضية الفلسطينية، كما أنّه من نافلة القول التأكيد على أنّ هذه الانتخابات ليست هي التي ترسم معالم السياسة الداخلية والخارجية لتركيا التي يسيطر فيها حزب العدالة والتنمية مع حلفائه على الأكثرية في الرئاسة والحكومة والبرلمان، وهي المؤسسات المنوط بها تحديد خيارات الدولة في السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع وبناء التحالفات والعلاقات، غير أنّ لها آثارها التي بدأت تظهر مع وعود الرئيس أردوغان، بعد صدور النتائج مباشرة، بالمراجعة والإصلاح، حين قال مخاطباً شعبه: "لقد وصلت رسالتكم، ونحن، بكل شفافية وشجاعة، سنجري عملية نقد ذاتي ونصلح الأخطاء"، وانتقد الموقف الأخيرة لأمريكا في مجلس الأمن، ودعمها اللامحدود لإسرائيل، وقال: "سأكون صوت الشعب الفلسطيني المظلوم ما أعطاني الله الحياة، حتى لو تُرِكت وحدي".
فهل وصَّلت الرسالة للحزب الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان الدرس؟ المواقف الأخيرة من غزة والصراع العربي الإسرائيلي تشير إلى أنّ المراجعات التي وعد بها الرئيس عقب صدور نتائج الانتخابات أخذت طريقها للتنفيذ، وما زال في الوقت متسع للتجديد في مسيرة الحزب والدولة، والتدقيق في عمليات تقييم الأداء وإجراءات النقد الذاتي وإصلاح الأخطاء، قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2028، حيث الكلمة للشعب، وهو الحاكم والحكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.