مهما برمجها التكنوقراطيون، ومهما احتكرها الأقوياء، ستبقى كرة القدم ترغب في أن تكون فن الارتجال، فالمستحيل يقفز إلى الواجهة، حيث لا ينتظره أحد.
إدواردو غاليانو
خلال صيف عام 1982 كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تقترف الجرائم البشعة الواحدة تلو الأخرى بعد اجتياح بيروت، مستفيدة من الانشغال بمتابعة كأس العالم، لكن حين عاد اللاعبون الإيطاليون كي يحتفلوا مع جماهيرهم، أهدوا التتويج إلى المقاومين الفلسطينيين.
أثناء حصار بيروت واجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي لها، يروي محمود درويش يومياته، عن شغف المحاصَرين بمشاهدة مباريات كأس العالم، حيث يتوقف القصف أحياناً حتى تنتهي بعض المباريات المهمة. فكان درويش ورفاقه المحاصرون ينزلون إلى قبو إحدى البنايات ليشاهدوا الحرب الصغيرة الدائرة في الملعب، متناسين، ولو لحين فقط الحرب الكبيرة الدائرة في الخارج، التي تستهدف اللبنانيين والفلسطينيين، حيث تتوقف آلة القتل الإسرائيلية ساعة ونصف الساعة تقريباً، هي وقت المباراة. تسعون دقيقة من الزمن تهدأ فيها المدافع وقصف الطائرات فيتمكَّن المحاصرون من مشاهدة اللاعب الإيطالي باولو روسي وهو يفعل الأعاجيب في الملعب.
إذ يقول درويش: "ونحن أيضاً نحب كرة القدم. ونحن أيضاً يحق لنا أن نحب كرة القدم، ويحق لنا أن ندخل المباراة. لمَ لا؟ لمَ لا نخرج قليلاً من روتين الموت؟!".
إن كرة القدم ربما تقدم شيئاً للعالم أو على الأقل لنا نحن المهمشين، فهي كمرآة للعالم بقبحه قبل جماله الذي يتلاشى رويداً رويداً، تقدم ألف حكاية غير مهمة وحكاية مهمة؛ مليئة بالتناقضات مثل الحياة، فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يتبدّى الصراع بين الحرية والاستبداد. وفي أحيان كثيرة، توجّه، عادة، من قبل رجال أعمال وسياسيين يستخدمون كرة القدم كمنجنيق دعائي للوصول إلى الصدارة في الإعلان.
كرة القدم ظاهرة شعبية عالمية تغمر العالم منذ زمن بعيد، ويرجع البعض تفسيرات وراء شعبيتها وأسباب انتشارها، إلى فكرة العدالة النافذة والقواعد الشفافة الواضحة التي يعرفها الجمهور والحُكّام جيداً.
مع ذلك، ينظر الصحفي والكاتب الفرنسي ميكائيل كوريا في كتابه "تاريخ شعبي لكرة القدم" إلى هذه اللعبة من منظور مختلف. يرى كوريا أن شعبية كرة القدم لا تعود فقط إلى عدالتها الظاهرة، بل أيضاً لكونها أداة للتعبير عن الوعي الطبقي وتطلعات التحرر. من خلال الكرة، تتشكل هويات جديدة وتنشأ تحالفات ومواقف طبقية قوية تعكس الرغبة في التغيير الاجتماعي والثقافي.
فعلى سبيل المثال، في بريطانيا مع بزوغ الثورة الصناعية، سعى أرباب الأعمال ليس فقط إلى توحيد قواعد العمل داخل المصانع، بل وامتدت جهودهم لتأسيس فرق رياضية تحمل أسماء تلك المصانع. لم تكن هذه الخطوات تهدف إلى توفير الراحة أو المتعة للعمال، بل كانت تمثل أداة استراتيجية لتعزيز تقديس السلطة وترسيخ نظام تقسيم العمل، فضلاً عن صرف الانتباه والطاقة بعيداً عن المطالبات بحقوق العمال.
غير أن كرة القدم، في نوع من المفارقة العجيبة، لم تُسهم فقط في تحقيق مآرب أرباب العمل، بل وفرت أيضاً أرضية خصبة لنمو وعي طبقي متماسك بين العمال، ما عزز من إحساسهم بالانتماء إلى طبقة موحدة تسعى للتحرر من قيود السلطة.
يستكشف كوريا في كتابه، بعمق ودقة، هذه المفارقة المثيرة للجدل، متأملاً في الديناميكية بين كرة القدم كظاهرة شعبية تجمع الجماهير، وكرة القدم كأداة نخبوية تخدم مصالح الأقليات الغنية. يتنقل النص بين الأزمنة والأمكنة دون حدود صارمة، مشيراً إلى كيف أن الطبقة العاملة التي استولت في الماضي على لعبة كرة القدم الأرستقراطية، تجد نفسها اليوم تحت رحمة أندية يملكها مليارديرات يشترون اللاعبين من الأحياء الفقيرة بمبالغ باهظة.
مع تمدد رقعة الإمبراطورية البريطانية وسطوة الاستعمار، حمل الجيش الإنجليزي لعبة كرة القدم إلى ربوع المستعمرات البريطانية الممتدة في أنحاء آسيا وأفريقيا. لعبة دخلت عبر بوابة السيطرة الاستعمارية، لكنها سرعان ما تحولت إلى رمز من رموز القومية والمقاومة، تُظهر بجلاء أن الشعوب المستعمَرة لا تقل شأناً عن المستعمِر نفسه.
في غضون أعوام، تناقلت كرة القدم من أيدي البريطانيين إلى السكان المحليين، لتصبح شغفهم الخاص، وتتطور بشكل ملحوظ. ولم تلبث أن شكّلت اللعبة مسرحاً آخر لصراع، حيث برع السكان الأصليون في تحدي والفوز على أندية المستعمرين. كان كل انتصار على أرض الملعب يُعتبر لحظة انتصار وطني، بمثابة إعلان عن قدرة وكرامة شعب مكافح. في هذه الظروف، تحولت كرة القدم إلى أكثر من مجرد رياضة، بل إلى وسيلة للتأكيد على الهوية والسيادة ومرآة تعكس روح الأمة وتطلعاتها نحو الحرية والاستقلال.
في مطلع القرن العشرين، شهدت مصر تجدد الروح الوطنية بقيادة الزعيم مصطفى كامل، الذي خلّدت عبارته الشهيرة: "لو لم أكن مصرياً لوددتُ أن أكون مصرياً"، ذلك الشعور الجياش بالانتماء والفخر الوطني. في هذا السياق، أصبحت الرياضة، وعلى وجه الخصوص كرة القدم، منصة حيوية لنمو الوعي الوطني في البلاد. إذ إن تأسيس النادي الأهلي عام 1907 جاء كتعبير ملموس عن هذه الروح؛ لم يكن اختيار الاسم "الأهلي" محض صدفة، بل جاء كرد فعل على تأسيس الأندية الأجنبية والمختلطة التي كانت تعمل في مصر آنذاك.
كان الشباب المتحمس، الذين شكّلوا العمود الفقري للحركة الشبابية وكانوا مرتبطين بالحزب الوطني – حزب مصطفى كامل، الدافع وراء إنشاء النادي الأهلي، بوصفه تعبيراً عن آمال وطموحات طلاب المدارس العليا. ومنذ ذلك الحين، نما النادي ليصبح ليس فقط أكبر الأندية المصرية، بل وأيضاً رمزاً للكفاح والهوية الوطنية في مواجهة التأثيرات الأجنبية، محتفظاً بمكانته كمعقل للروح المصرية الأصيلة حتى اليوم.
لماذا نقاطع النادي الأهلي؟!
لكن النادي الأهلي العربي المصري اليوم نجد شعاره على عبوات "كوكاكولا" للمشروبات الغازية، التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي، في ظل حرب إبادة يشنها على أهالينا في غزة منذ أكثر من نصف عام. ولم يقف الأمر عند ذلك، بل جاء رئيس شركة الأهلي لكرة القدم عدلي القيعي، ودعا الجماهير إلى الإقبال على شراء منتجات رعاة النادي، وذلك من أجل استمرار دعمهم للنادي.
تأتي مقاطعة جماهير النادي الأهلي لفريقهم اليوم لا كفعل احتجاجي عابر، بل كمسعى جدي ومؤثر لاسترداد ناديهم، واستعادة تلك المساحة الفريدة من الحرية التي لا تزال توفر لهم ملاذاً تحت ضغوط القمع. هذه الفسحة المتبقية من الحرية تمثل لهم منبراً حيوياً، وإن كان رمزياً، للتعبير عن قضاياهم ومقاومتهم ضد الظلم. يستعيد المشجعون ناديهم ومساحتهم، مُعلنين بذلك أن حبهم للفريق يتجاوز حدود الفوز والخسارة ليشمل قيم العدالة والحرية.
نادرا ما يقول المشجّع "اليوم سيلعب ناديَّ…". إنّه عادة ما يقول "اليوم سنلعب نحن"
إدواردو غاليانو
وربما هذه المقاطعة، فرصة للجماهير كرة القدم في مصر لتخلي عن دور المستهلكين السلبيين للمتعه، الذين تسعى صناعة كرة القدم الحديثة لاختزالهم فيه، والتحول نحو مشاركة فعالة في إدارة أنديتهم. فعلى سبيل المثال، نادي سوانزي سيتي، أحد الأندية المعروفة في الدوري الإنجليزي، مملوك منذ عام 2013 بنسبة تزيد عن 20٪ من قبل أنصاره، ما يمنحهم الحق في حضور اجتماعات مجلس الإدارة والمشاركة في عمليات اتخاذ القرار، الذي عادةً ما يستحوذ عليه أفراد جهلة بشؤون اللعبة، أو فسدة ومتربحون من المال العام كما هو الحال في أغلب دولنا.
يتحدث الشاعر والكاتب الأوروغوياني إدواردو غاليانو، عن المشجع وكرة القدم قائلاً: "نادرا ما يقول المشجّع "اليوم سيلعب ناديَّ…". إنّه عادة ما يقول "اليوم سنلعب نحن". تتخطى كلماته المجاز، فاليوم في بلادنا حيث يحيطنا الاستبداد العنيف والقمع العبثي، تتحول كرة القدم إلى متنفس لمجتمع بأسره، فمازالت ترسم ملامح مشاركة جماعية تعكس الرغبة في الخلاص المشترك والأمل في أن يمتلك الناس، لا مجرد فريق كرة قدم، بل مصيرهم الجماعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.