أجمع المستشرقون من دارسي الأنثربولوجيا، ومؤرّخو الثقافة، وعلماءُ الجغرافيا الثقافية، على أنَّ "الفزعة" ونجدة الملهوف لطالما كانت من القيم الرّاسخة في الشخصيَّة العربيَّة.
فالعرَبيُّ، في صورته القياسيَّة، قبل الإسلام، كما صوَّر نفسه في الأشعار والمنثورات وأنماط الثقافة الشفاهيَّة، معقَّد مليء بالتّناقض.
فقد يطلقُ العنانَ لنفسه وأهوائها دون قيد، تفلّتاً وابتداعاً في العقائد، وبغياً ومجوناً في الملذَّات، ولكنه بُليَ بنفسٍ تأبى وتستقبح طيفاً آخر من المثالب ومخارم المروءة؛ كأن يخذل أخاه في موطن يرنو فيه نصرته.
ثمَّ جاء الإسلام؛ فهذَّب تلك الشرور الثقافيَّة والاجتماعيَّة الكامنة في الشخصيَّة العربيَّة، وثمَّنَ المناقبَ وبواعثَ الفخر وأثنى على قرائح العزَّة والنُّبل والرُّجولة.
من يصد الطوفان؟
بعد عمليَّة السَّابع من أكتوبر، الَّتي مثَّلت تاريخاً تأسيسياً وحدثاً فارقاً على مستوى شبكة شديدة التعقيد والتَّداخل من "الثنائيّات المتعارضة" ثقافياً وحضارياً داخل الإقليم وخارجه.
لدرجة أنّ البوارج الحربيَّة الأمريكيَّة، ورديفتها الأوروبيَّة، قد هرولت من مرابضها الاستراتيجية في المياة العميقة لنَجدة الاحتلال المنكوب؛ بدأ العملُ الجِذريّ، السّريع والْعاجل والجماعيُّ، على "جثّ الخطر" في مهده.
لنتخيَّل الأمرَ معاً كما استقبله الأمريكي وحلفاؤه، ومن ورائهم قاعدتهم الدينيَّة المتقدّمة في الشَّرق الأوسط: إسرائيل، بعد ساعات من نهار يوم السّابع من أكتوبر.
جماعة سياسيَّة، إسلاميَّة التوجّه، من الجنوب العالميِّ، الَّذي طالما اقترنت صورته الذّهنيَّة بالفَقر والتخلُّف والعنفِ والعَجز، في إقليمٍ لا يكاد يرى بالعين المجرَّدة، أنهكه الحصارُ على مدار عقديْن، تقود حملةً عسكريَّة خاطفة، مركَّبة شديدةَ التعقيد، ضدّ درّة الإنتاج السّياسي والحضاريّ والعسكريّ الغربيّ – الطِّفل المَّدلل: إسرائيل.
فتكشفه وتخضعه، وتعيده سبعة عقود إلى الوراء، حيث تساؤلات التأسيس والوجود إبّان الحرب العالمية الثَّانية؛ بعد ما ظنَّ أنّ البلادَ والإقليمَ قد دانوا له أخيراً.
"أسوأ من زلزال، فالزلزال قدريّ يمكن استيعاب توابعه بتكاتف الأسرة الدوليَّة؛ وإنّما هو كابوس، تداعٍ حرّ لكلّ الهواجس الَّتي ظنَّ اللاوعي الغربيّ أنّ الزَّمن قد تكفَّل بوأدها"، هكذا وصفه أحد المحللين الأمريكيين المحسوبين على اليسار.
انهيار مروِّع للمسلَّمات الثقافيَّة والسياسيَّة الَّتي حرص الغربيّون على إرسائها خلال عقود عن العربيّ السُّنّيِّ الَّذي طوى صفحة الحرب طوعاً بالمساوَمات، وقسراً بفارق القوَّة المراكَم عبر الزَّمن.
لتصدرَ الأوامر فوراً عن غرف الطوارئ الحضاريّة، رأساً من واشنطن، مصحوبة بقوافل السّلاح وغطاء الإعلام، إلى الإسرائيلي: اجتثّوا غزَّة، فوراً، وقوِّضوا بنيانَها في عمليَّةٍ عسكريَّة مشبَّعةٍ بالحقد الثقافي والتاريخيّ، ولا تخلو من استعارات الكراهيّة والشرّ والإبادة.
فغزَّة، مساء يوم السّابع من أكتوبر، صارت في نظر الأمريكيّ وحلفائه الأوروبيّين معادلاً موضوعياً ومرادفاً معاصرا لجُملةٍ من "مستحقّي الفناء" التاريخيين، بدءاً من السكَّان الأصليين في الأمريكيتين، مروراً بالنَّازي والشّيوعي السوفييتيّ، وصولاً إلى القاعدة وداعش.
غير أنّ غزّة – بعد السابع من أكتوبر – أكثر خطورةً، نظراً للمفارَقة في موازين القوى، ومخاوف عدوى الفاعليَّة العابرة للحدود في محيطٍ يمتلكُ القداسةَ والثَّروة والطوفانَ البشريَّ والثَّقافة الجامعة؛ ولا ينقصه غيرُ قدح شرارة الإلهام.
الإبادة وكيّ الوَعي
التقطَ المحتلّ المكروب بالصّدمة الرّسائلَ الأمريكيّة. خطر وجوديّ، وتحالفٌ عالميٌ، وتصريحٌ – مؤقَّت من حيث الزّمن لاعتبارات أمريكيّة داخليّة تخصّ الانتخابات وشعارات حقوق الإنسان – بالاجتثاث والإبادة وترميم الردع الإقليمي.
على أرض الواقع، امتشقَ العدوّ "سيوفه الحديديّة" في الحرب المقدَّسة على أطفال غزَّة ومشافيها وأرشيفها المدنيّ، ثأراً من مغامرة الرّجال الحالمين بالحرية ذوي الخيال الجامح في زمن إخصاء الوعي.
الأهداف الحقيقية هي: تعبيد الأرض أمام الاجتياح البرّي، واستغلال لحظة الاستضعاف، وجعل غزَّة عبرةً تاريخيَّة غير مسبوقة لكلِّ من تسوّل له نفسه التّفكير في تقويض أركان العالَم الذي تشكَّل على أنقاض متوالية: الحرب العالمية الثانية وهزيمة السّوفييتي والحرب على الإرهاب.
تحت أعين الأمريكيّ وبأمواله وأسلحته، صبّت إسرائيل من الحمم العسكريَّة وصنوف القتل على امتداد مساحة 360 كيلومتراً مربعاً ما يفوق الذّخائر الَّتي ضربت هيروشيما ودريسدن والموصل مجتمعين.
خلال 7 أشهر، سوّت الواحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الإقليم القاحل غزَّة بالأرض، ودمَّر جيشها الأكثر أخلاقاً في العالم القطاعَ الصحيَّ، واستأصلت نهائياً ما يصل إلى 3% من السكَّان، ومسحت التّاريخَ الثقافيَّ للمدينة من الوجود، واغتالتْ كوادرها البشريَّة النّوابغ.
فلم يبقَ من غزَّة إلا اسمها، وثلَّة من الرّجال الَّذين يقاتلونَ حتَّى الرّمق الأخير، وآلاف الهائمينَ على وجوههم وسط تلك "الديستوبيا"، بحثاً عن رفات عزيز اغتالته مسيَّرة إسرائيليَّة، أو عن كسرة خبز بالية مغمَّسة بالدّماء ومغلَّفة برائحة الموت.
نحيب غير مسموع
في ظلِّ تلك النَّازلة، لم تطلب غزَّة الرسميَّة ولا السَّوادُ الأعظم من أهلها أبسطَ حقوقهم: أن يُرفَع الحصارُ المفروض عليهم، ليدخلَ المقاتلون والسّلاح من كل حدب وصوب، إسناداً للرّجال المحرومينَ من أحد ثوابت ديمومة الصّمود، وهو طرق الإمداد.
لم تطلب غزَّة من أشقائها، في الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والدم، ممن ينفقونَ معظم مقدّراتهم على الجيوش والتسلّح (مصر والأردن) إعلانَ الحرب على إسرائيل، الَّتي استعانت بالمرتزقة من الخارج وفُتحت لنجدتها مخازنُ السلاح الاستراتيجيَّة.
لم تطلب غزَّة من الجوار القريب، بالضفة الغربية والقاهرة وعمَّان، تمزيقَ اتفاقيّات السَّلام وقطع العلاقات الدبلوماسيَّة مع الولايات المتّحدة وإسرائيل وطرد السفراء وغلق المقرّات الدبلوماسيَّة، لئلا تُتهَم بتهديد العروش المتّخمة بالاستقرار، وتعريض الشُّعوب للخطر.
لم تطلب غزَّة، كما وردَ على لسان الملثَّم رسمياً، إلّا أبسط حقوق الإنسان الأوَّليَّة، ما يحتاجه النَّاس فقط كي يظلّوا على قيد الحياة، ما كفله القانون الإنساني الدّولي في بنوده الأولى: أن يتدفَّق الطعامُ بشكل كافٍ بسلاسة، وألا يُستخدَم التّجويع سلاحاً لعقاب الحاضنة الشعبيَّة. فقط، الحدّ الأدنى من النزاهة في الحرب.
كما طالبت غزَّة بأن تُمنَح شعوبُ دول الجوار القريب هامشاً – استثنائياً – من الحريَّة المدنيَّة السّلميَّة، تعبيراً عن تضامنهم مع أشقّائهم المكلومين، وتعزيزاً لصمودهم، وتنويهاً عالمياً عن مشروعيَّة النّضال الفلسطينيّ ووحدته، فغزَّة جزء من الكلّ الفلسطينيّ، وليست نشازاً مارقاً كما يروّج العدوّ.
وقد بدا من تلك المطالب، شديدة العقلانيَّة، إدراكُ حكَّام غزَّة حقيقة أنَّ المنطقة مشطورةٌ تقريباً إلى قسميْن، قسم يسير في فلك الأمريكي والإسرائيلي، وعلى رأسه: مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، فلا يرتجى منه أكثرُ من شروط البقاء، كالطَّعام والشراب، وآخر لديه هامشٌ من الفاعليَّة الميدانيَّة في لبنان واليمن والعراق.
ليس الخذلان وحده
دون ذرّة خجل، قالت الشقيقة الكبرى مصر إنّه ليس بمقدورها ضمان تدفُّق الكميّات الكافية من مستلزمات البقاء إلى غزَّة، نظراً لتهديد إسرائيل بقصف الشَّاحنات المصريَّة جواً، حال عدم التزامها بسلسلة الضوابط الَّتي تفرضها إسرائيل للعبور إلى القطاع.
اتّكأ النظامُ المصريُّ في تسويغ هذا الموقف الانهزاميّ، إلى جانب ما سرّبته الصحافة الإسرائيليَّة عن التهديدات بالقصف، إلى استهداف إسرائيل المعبر الحدودي من جانب غزّة ما لا يقلّ عن 5 مرَّات، بل والاعتداء بالقذائف على برج مراقبة مصريٍّ، ممّا أدَّى إلى وقوع قتلى وجرحى في الجانب المصريِّ.
أعطى الموقف المصريُّ السلبيُّ الضوء الأخضرَ إلى كلٍّ من الأردن والضفة الغربية لاتَّخاذ مواقف انهزاميَّة مماثلة بلا خجل، من باب أنّه إذا كانت القاهرة بثقلها البشريّ والتّاريخيّ والعسكريّ والجغرافيّ ونافذتها الحدوديّة المباشرة مع غزَّة عاجزة عن تحدّي إسرائيل.
فهل ستفعل عَمّان، الَّتي تعاني من شحٍ شديد في شروط البقاء الأساسيَّة من مياه ووقود، أو السُّلطة الفلسطينيَّة الَّتي لا تحصل على المساعدات الخارجيَّة دون موافقة تل أبيب وتحلم باليوم الَّذي تنتهي فيه حماسُ من الوجود؟
وكان السيسي منذ الساعات الأولى لطوفان الأقصى، قد وصمَ منفّذيه، في اللقاءات الدوليَّة رفيعة المستوى الَّتي بُثَّت مقتطفات منها على الهواء، بالإرهاب، مقترحاً على إسرائيل تهجيرَ سكَّان القطاع إلى "صحراء النقب"، حتَّى تكون العمليَّة العسكريَّة أكثر نجاعةً، عوضاً عن القتال غير المتماثل داخل المدن، بما قد يؤدّي إلى استنزاف الجيش الإسرائيلي.
لم يمنح ذلك التصريح المبكر من السيسي شرعيةً لحرب إسرائيل الاستئصاليّة على غزَّة بدعوى اجتثاث "الإرهاب" وحسب، وإنما كان إعلاناً تاريخياً بأنَّ القاهرة لن تتدخَّل، ولو بالأدوات النَّاعمة، لتقويض الإبادة، وأنَّ كلّ ما يشغلها ألا تؤدّي وحشيَّة القصف إلى نزوح سكان غزة إلى أراضيها.
وهو المنطقُ الذي صاغه وزير الخارجية سامح شكري في تصريح لا ينسى، قال فيه إنّ إعاقة إدخال الشاحنات إلى غزة عبر رفح، أو امتداد عمليّات الجيش الإسرائيلي البرّية إلى محور صلاح الدين المتاخم للحدود المصرية، ليست مبرّرات للنظر في تعليق اتفاقية السلام.
كما فوَّض النظام المصري "هيئة الاستعلامات" التي يرأسها ضياء رشوان في الردِّ على الانتقادات الإسرائيليَّة بخصوص التقصير في ضبط الحدود؛ فجاء البيانُ مفصَّلاً يملأه الفخر، يعدّد طبقات الحصار الهندسيَّة الَّتي استحدثها النظامُ منذ وصوله، من تدمير الأنفاق إلى المنطقة العازلة وصولاً للجدار الحدوديّ الضَّارب تحت الأرض.
ويبدو أنّ تقدير الموقف الإقليمي قد توصَّل إلى أنَّ كلّ ذلك الخذلان والحصار ليس كافياً لضمان قدرة إسرائيل على الفتك بغزَّة، فتطوَّعت مصر لصدِّ بعض الهجمات الجويَّة الَّتي شنها اليمن من جنوب البحر الأحمر تجاه إيلات، وهو ما توسَّعت فيه الأردن لاحقاً ليلة 14 أبريل/نيسان بالتصدّي للمسيَّرات الإيرانيَّة.
كما أدى الأردن دوراً محورياً لا في حصار غزَّة فقط، وإنما في رفع الحصار البحريّ الذي فرضه اليمن على إسرائيل، من خلال الطريق البرّية المستحدَثة الَّتي تمرّ بالسعوديَّة والأردن قبل الأراضي المحتلَّة، فيما عُرِف بطريق "البندورة".
وقد بذلت الأنظمة الثلاثة وسعها في وأد التفاعلات الجماهيريَّة العفويَّة المتضامنة مع مُصاب غزَّة، فشاركت السلطة الفلسطينية في إحباط عمليّات ضد الاحتلال، ووصلَ الأمرُ بالأمن الأردنيّ إلى سحل النساء، وإلى الآن لا يعلم أحدٌ مصيرَ فرد الأمن الَّذي اعتلى سطح لافتة إعلانيَّة رافعاً علمَ فلسطين.
ثلاثي الموجة الأولى من التطبيع
تطرح تلك الاستجابة، المخزية في أكثر الألفاظ تحفظاً، سؤالاً عن كيف وصلت الدولة العربيَّة الحديثة التي تأسست مطلع القرن العشرين، بناءً على مقولات تحرريّة من الاستعمار الخارجي، أياً كان مسمّاه وعقيدته، ونالت استقلالها تباعاً بعد نضالات مشهودة منتصف القرن العشرين، إلى لحظةٍ تقوم فيها بإحكام الحصار على غزَّة، بل والتَّفاني لرفع الحصار عن إسرائيل؟
والإجابة الأقصر هنا، أنّ الدولة العربيَّة بصيغتها المعاصَرة ترى في نفسها "وريثة" الموجة الأولى من التطبيع مع إسرائيل والارتماء في أحضان أمريكا والغرب كلياً، والتي دشنها السادات في كامب ديفيد 1978، ليلحقه بعد ذلك على نفس الطريق الملك حسين في وادي عربة، ثمَّ السلطة الفلسطينيَّة في أوسلو 1993.
ولدول الموجة الأولى السبقُ في طرق هذا الباب، الَّذي فتح معه مرحلةً جديدة من "الاقتصاد السياسي" حيث القروض والمساعدات الخارجية والاندماج في الاقتصاد العالمي ومنظومة الاستيراد والاستهلاك والاستفادة من التكنولوجيا الأمنية الإسرائيلية، وهو نفس الباب الَّذي فتحته دول الخليج متأخرة في اتفاقات "أبراهام".
وقد طوَّر ثلاثي الموجة الأولى من التطبيع تحالفه الاستراتيجي مع إسرائيل، ليشملَ الربط الاقتصادي والجغرافيا السياسية والاتصال العضوي مع الاحتلال، عبر صفقات الطاقة والمياه، إذ تحصل مصر سنوياً على أكثر من 2 مليار قدم مكعب من الغاز المسروق من الفلسطينيين، فيما تحصل الأردن على نصف تلك الكمية تقريباً.
وتشترك الأطراف الثلاثة، القاهرة وعمَّان والضفة الغربيَّة، في بعض السمات المهمة، التي تلتقي في الأخير عند إسرائيل، وهي الجهاز البيروقراطي المتخم بالفساد، والحاجة الدائمة إلى المساعدات الأجنبيَّة التي لا يستفيد منها السكان، وشحِّ الموارد الأساسية، وأجهزة الأمن الداخليَّة شديدة القسوة.
ويتمتَّع النظام الملكي الأردني الهاشمي بخصوصيَّة كبيرة تفسّر دوره النوعي في حصار غزَّة وإسناد إسرائيل، فهو النظام العائليُّ الحاكم، المتمسِّح في القداسة، والقائم كلياً على الخدمات المخابراتيَّة والأمنيَّة، والَّذي لم يصبه التغيير منذ تأسيسه على يد الإنجليز قبل قرن مضى.
وبعد ثورات الربيع العربي، التقت الأطراف الثلاثة مع إسرائيل، عند نقطة جديدة، وهي العداء الجذريّ لأيّ شكل من التنظيم السياسي الحقيقي، لا سيما إن كان إسلامياً، والهلع المرَضي من الجماهير وحركات التغيير، سلميَّة كانت أو غير سلميَّة، وهو أحدُ أسباب ذلك الموقف المخزي.
الرعب من الطوفان
وبالنسبة لحركة حماس على وجه الخصوص، فإنَّ كيانات الموجة الأولى من التطبيع أخذت تنظر إليها بعين الريبة والقلق منذ عام 2011، بل وتتحيَّن الفرصة الَّتي تختفي فيها تلك الحركة من الوجود، وهو ما يفسِّر أيضاً الموقف من الطوفان.
وتعود تلك العدائيَّة إلى كون حماس نموذجاً شديدَ التفرّد، فهي تنظيم، وكما هو معروف في علم الاجتماع السياسي، فإنَّ شرط الفاعليَّة هو التنظيم، ولذلك تحظر الدول العربية كافة حرية تأسيس وتنمية التنظيمات.
وهي ليست تنظيماً وحسب، وإنما هي تنظيم مسلَّح، طموح، ذو خيال سياسي خصب، شديد المرونة، له آباء مؤسسون، وتقاليد راسخة، يستمدّ إلهامه من حرارة الإسلام، ومن ثمَّ فإنه يقدّم نموذجاً تطبيقياً لقيم الإسلام، يختلف عن أنماط الإسلام الذي ترعاه الدولة العربية المعاصرة، الذي هو يتأرجح بين السكون التام، أو الفاعلية الفردية في الأحياز الشخصية بلا تنظيم، أو التصوّف واعتزال الدنيا والسياسة.
بالإضافة إلى أنه تنظيم مسلَّح إسلاميٌ، على التوالي، فإنه "ملهِم" والإلهام قد ينتقل بالعدوى، تماماً كما في سيناريو الربيع العربي الذي بدأ في تونس غرب العالم العربي، وانتقل إلى أقصى الشرق سوريا، وأحد أسرار إلهام التنظيم هو قضيته التحررية الجامعة: فلسطين.
ومنذ 2011 وحتى بعد موجة الانقلابات، بدأ التنظيم يلفت الأنظار في تماسكه رغم الضربات العاتية، بالإطاحة بنظام مرسي في مصر وتدمير الأنفاق، بل واستطاع مراكمة القوة بوتيرة مبهرة، مع مد جسور التقارب إلى الشرق الإسلامي، حيث إيران وتركيا، وكلاهما نموذج مكروه من دول التطبيع.
حاولت إسرائيل، بمباركة مصرية من السيسي الذي كان قد صعد لتوه إلى السلطة في مصر، اجتثاث حماس من غزَّة صيف عام 2014 في حرب ضارية دامت أكثر من 50 يوماً، بلا فائدة.
وقبل طوفان الأقصى الحقيقي، دأب النظام المصري على تسويق الخطر الوجودي الناجم عن وجود حماس على رأس السلطة في غزة، مروّجاً لتعرضه إلى "طوفان مبكر" عام 2011، عندما اجتاحت قوافل حماس العسكرية الحدود المصرية لتفتح السجون وتحرر قيادات الإخوان.
ومع أن هذه السردية تفتقد إلى الدلائل ويعوزها المنطق وتطعن في كفاءة الأجهزة الأمنية المصرية، إلا أنها تسلط الضوء على حجم الأزمة بين نظام ما بعد يوليو 2013، وبين السلطة في غزة، وهو ما انعكس على الموقف المصري من الإبادة.
ومن جانبها، تكنُّ السلطة الفلسطينية للسلطة في غزَّة العداء الظاهر منذ الانسحاب الإسرائيلي من القطاع 2005، والَّذي أرجعه شارون حينها إلى كلفة الوجود العسكري فيها، الأمر الذي يطعن في جدوى المسار السياسي الذي اتبعته فتح منذ صعود عبّاس، وقد تعاظمَ العداء مع أحداث الحسم العسكريِّ في العام التالي.
وبناءً على تلك العداوة، والالتقاء عند إسرائيل، أسس ثلاثي الموجة الأولى من التطبيع آليةً مشتركة تتبنى أجندة واحدة للقضية، هي أجندة السلطة الفلسطينيَّة، ويجتمع القادة الثلاثة ضمن هذا الإطار كلَّ فترة على المستوى الرئاسي أو مستوى وزراء الخارجية.
وتشارك فرنسا، صاحبة التاريخ الاستعماري في الشام، بشكل ملحوظ منذ مايو 2021 كطرفٍ رابع في تلك الآلية، وهي المشاركة التي انبثق عنها صيغة وقف إطلاق النار بعد عملية "سيف القدس" التي مرَّغت فيها غزة أنفَ الاحتلال، وكانت تمهيداً للطوفان.
وفي نفس السياق، سافر السيسي سراً إلى عمَّان مع اندلاع موجة التظاهرات المطالبة بطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيليَّة ووقف المسار الإقليمي البرّي المستحدَث لفكّ الحصار عن إسرائيل، بغرض تقديم الدعم السياسي واللوجيستي، إزاء العدو المشترك: الجماهير والتنظيم الملهِم.
لحظة تأسيسية
كما أنَّ الفلسطينيَّ الحالم بالخلاص من الاستعمار يؤرخ إلى 7 من أكتوبر باعتباره لحظة تأسيسية، ما قبلها ليس كما بعدها، وهي كذلك بالفعل، فإنَّ إسرائيل وحلفاءها من العرب ينظرون إلى العملية الاستئصالية الجارية في غزة إلى الآن باعتباره حدثاً فاصلاً، بل وحرب وجود.
وعليه فإننا بصدد لحظة استثنائية بالنسبة لكل الأطراف، غير أنّ إسرائيل ولو أول مرة بهذه الصورة، صارت ترى نفسها في المرآة العربيَّة كما يقول مردخاي كيدار الأكاديمي الإسرائيلي المتخصص في الشؤون العربيَّة.
ولصورة أوضح، فإنّ مردخاي وآخرين في الأوساط الإسرائيليَّة يعتبرون أنّ معركة "السيوف الحديديَّة" هي امتداد طبيعي ومنطقي وعادل للحرب الاستئصاليَّة التي شنها النظام الملكي الهاشمي في الأردن بقيادة الملك حسين ضد منظمة التحرير الفلسطينيَّة في أيلول الأسود عام 1970.
أدَّى ذلك الاقتتال العربي – العربي حينها إلى القضاء على ثلةٍ من مقاتلي منظمة التحرير الأفذاذ، ودفع الفلسطينيين إلى رحلة شتاتٍ جديدة، من الأردن إلى لبنان، والتي شهدت اقتتالاً داخلياً أيضاً كان الفلسطينيون طرفاً فيه.
وعلى حدّ قول مردخاي، فإنّ الجيش الإسرائيليَّ يبرر داخلياً حجم العنف غير المسبوق لا بدافع الانتقام من الطوفان وحسب، وإنما ضمن سردية: إعادة استنساخ ما جرى في رابعة العدوية صيف 2013، ولكن في مسرحٍ أكبر، وبغطاءٍ إعلاميٍّ أوسع، وبدعمٍ أمريكيّ أكثر حزماً ووضوحاً.
فإذا كان الجيش المصري قد قتل معارضيه من الإسلاميين مسرحياً بلا جريرة في وضح النهار بالآلاف، فلمَ قد يتورع الجيش الإسرائيلي في عملياته التي يخوضها ضد مسلحين بادروا بالهجوم عليه؟ يقول مردخاي.
ومن ناحيتها، تدين دول الطوق، أو ثلاثي الموجة الأولى من التطبيع، إلى إسرائيل بالفضل ضمن متواليةٍ من الخدمات المتبادلة، فقد ساعد الجيش الإسرائيلي نظيره المصريِّ في الحرب على التمرد في سيناء.
كما عرض التدخل الحاسم لإجهاض محاولة الانقلاب الداخلية على ملك الأردن قبل ثلاثة أعوام، ويدين أبو مازن للجيش الإسرائيلي على عملية "حارس الأسوار" التي فرّغت مخيمات الضفة من المقاومين 2002، وهو ما مهد لصعوده للسلطة بعد عامين!
الجهرُ بالعجز.. لم؟
ومع إدراك الطرفين، إسرائيل وحلفائها العرب من جوار غزة، مفصلية العلاقة بينهما، على أساس وحدة المصالح والمخاطر؛ اضطلعت دول الطوق بدورٍ آخر لا يقلّ خطورة وقبحاً ورداءةً عن حصار المضيوم ودعم ظالمه، وهو: إعادة الاعتبار للمحتل في الإقليم بعد ما تهشَّمت صورته مع الموجة الأولى من الطوفان.
أدرك ثلاثي الموجة الأولى من التطبيع، أنَّ السابع من أكتوبر قد ضربَ الصورة الذهنيَّة لإسرائيل، كقوَّةٍ لا مجالَ لمجابهتها، في مقتل، وهي خسارةٌ معنويَّة ستنعكس تلقائياً عليهم بالسَّلب، إن لم يتمّ تداركها.
وعليه تقرّر، من النظام المصريِّ بالأخص، بتوجّه واعٍ، ممارسة ما يعرَف في علم النفس السياسي بـ "العجز المكتسَب"، وقد سميَ مكتسباً لأنه ليس عجزاً حقيقياً أو أصيلاً، وإنما هو نوعٌ من "التواطؤ الطوعي على الذات"، حيثُ تكون النتيجة المرجوّة منه أنّ هناك طرفاً يمتلك كلَّ مفاتيح القوة، وهو إسرائيل في هذه الحالة، وآخر قليل الحيلة، مسطَّح تماماً، لا يقوى على تحريك ساكن.
يُفسِّر هذا الإصرارَ العجيب من القاهرة على "الاستعلان بالعجز" بعد أيام قليلةٍ من تهشيم صورة إسرائيل الذهنيَّة في الطوفان، فلأوِّل مرَّة تقريباً يصدر هذا الكمِّ الرّسمي من التصريحات عن مسؤولي دولة وازنة في حجم مصر، يقولون فيها – دون خجل – إننا نخشى عدم الالتزام بالكود الإسرائيلي، خشية ردّ فعلها العسكريِّ.
لاحقاً أكد الرئيس الأمريكي والإسرائيليّون، في سياقات مختلفة، أنّ النظامَ المصريَّ يبالغ في ممارسة "المسكنة"، تبريراً لقراره الداخلي بحظر دخول المساعدات بالقدر الكافي إلى خصومه في غزَّة.
وقد انخرطَ النظامُ المصريُّ بالفعل في معادَلة إسقاط المساعدات جواً، ولم تغامر إسرائيل بقصف طائراته كما روَّج، وعندما أصدر البيتُ الأبيض تعليمات صارمة بإغراق جيران غزة القطاعَ بالمساعدات، انخرط الجميع، بما في ذلك إسرائيل، في التنفيذ فوراً بسلاسة.
وينتهي أيّ شكٍ إزاء اتخاذ النظام المصري قراراً واعياً بلعب هذا الدور، حيث يستعلن بالعجز بغرض إعادة الاعتبار لإسرائيل وممارسة أقصى ضغط ممكن على القطاع، عند استحضار حقيقة أنّ النظام لم يتنصل من إدخال المساعدات إلى غزة بدعوى العجز فقط، وإنما رفض حتَّى فتح البوّابة لاستقبال الجرحى بالأعداد اللازمة يومياً.
فإذا كانت إسرائيل تفرض إجراءات مشددة على إدخال الشاحنات خوفاً من احتوائها على ما قد يعضد قوة حماس، والنظام في مصر لا يملك من القوة ما يكفيه لإنفاذ سيادته في هذا الملف؛ فلمَ رفض أيضاً "استقبال" الجرحى المضرجين في دمائهم، مكتفياً بعدد محدود يومياً، وهو نحو 20 مصاباً؟
ساعدَ ذلك القرار الاستراتيجي الواعي، بالاستعلان بالعجز أمام الرأي العام الداخلي، في تبسيط الحقائق أمام الجمهور، وهي أن محاولة استلهام تجربة الصمود والإرادة والفاعليَّة من أولئك المحاصرين في غزة مرفوضة وغير ممكنة.
فتلك الروح الوثّابة وهذه القيم الإيمانيَّة تنتهي صلاحياتها عند بوابة معبر رفح، وعلى كلّ من يسكن تلك الديار المؤطَّرة سياسياً في اسم "مصر" أن يعتنقَ السمت العامَ للسلطة، وهو العجز والتمسكن وقلة الحيلة، فأقصى ما يمكن استشفافه من الأحداث، كما قال السيسي، أنّ غزة صارت عبرة للطامحينَ وأصحاب الخيال الجامح، فضريبة الأمل ستكون التجويع والدمار.
العداء البُنيوي
وبمرور الوقت، لم يعد العداء لحكَّام غزَّة وتمنّي زوالهم بأيّ ثمن قاصراً على رموز السلطة في دول الطَّوق، وإنّما امتدّ وتغلغل تلقائياً إلى وجدان كوادر وقيادات الأجهزة الأمنيّة، الَّتي تنظر إلى تجربة غزة بعين الحسد والنقمة.
يتضمَّن أحد مقاطع الفيديو الذي يعود تاريخه إلى حرب 2008، حيث يتحدث الرئيس الأسبق مبارك إلى الإعلام عن التداعيات السياسيَّة والإنسانيّة للعدوان، لغةً وخطاباً ورسائل جسد تعجّ بالغضب والنفور من حكَّام القطاع، الذين يحمِّلهم المسؤولية الضمنيَّة عن الكارثة الإنسانية، دون أن ينبس ببنت شفة انتقاداً لإسرائيل.
المفارقة أنّ هذا الحوار المسجل يبدو كما لو أنه صار مرجعاً للدبلوماسية المصريَّة الحالية، في رسائله المباشرة والمضمرة، فعندما تستمع إلى السيسي يتحدَّث عن نفس الموضوع، لن تجد فرقاً جوهرياً في الشكل أو المضمون، حتّى أن مبارك قال صراحة إنه لن يدخل أيَّ شاحنة مساعدات، دون أن تمارس إسرائيل حقها في تفتيشها.
وقد انتشر مقطع فيديو حديث خلال لقاء إعلامي لأحد قادة جهاز المخابرات المصرية يهاجم فيه حماس على قرار طوفان الأقصى، متسائلاً في استنكار: "هو أنت تروح تضربهم، وبعد كده ترجع تعيط؟"، فنحن إذاً بصدد انفصال وجدانيٌ وقيمي كامل بين الطرفين.
كما وثَّقت المقاومة في عدد من الوثائقيات الرسمية الصادرة عنها السلوكَ الغريب لرجال الأجهزة الأمنية المصرية خلال الوساطة إبَّان مفاوضات صفقة شاليط، فالمفاوض المصريّ كان يفاوض نيابةً عن إسرائيل، مستخدماً أدوات الضغط للخروج بأفضل اتفاق.. لإسرائيل!
وعلى موقع "تويتر" كمٌ كبير من المشاركات الموثَّقة عن المعاملة المهينة التي يتلقَّاها الغزيُّ في غير زمن الحرب، أثناء عبوره من القطاع إلى مصر عبر المعبر، للعلاج أو التعليم، أو للسفر للشعائر المقدَّسة.
وفي الضفَّة الغربيَّة، لا يكاد يفصل بين المداهمات والحملات يشنها الأمن الوقائي ومخابرات السلطة على المقاومين في المخيمات والأزقَّة وبين نظيرتها الإسرائيلية ساعات، ضمن مظلة التنسيق الأمنيّ.
وبحسب الثائر الفلسطيني الراحل نزار بنات، فإنّ الأمر لا يتعلَّق بأنماط سلوك فرديَّة، وإنما صار استجابة لحزمةٍ من العوامل، الثقافية والهيكليَّة والمصلحيَّة، المتراكمة عبر الزمن، الَّتي صارت تجعل رجل الأمن في السلطويّات العربيّة يزدري البندقيَّة المقاوِمة، ولا يفهم سوى لغة الرشاوى والدخان والسّطو على الحقائب.
وهو ما يشبه سلوك رجال الأمن في السجون المحلية مع أهالي المعتقلين وزياراتهم، فالمعتقَل وذووه وأغراضهم مستباحون مهدورو الكرامة، نتيجة عمليَّة تشويه المقاوم – المعتقَل، ومسخ وجدان رجال السلطة.
الحسد السياسي
ومن الشرائح الأدنى في هرمية السلطة إلى أعلى الهرم، يعود "علم النفس السياسي" أداةً تفسيرية ناجعة من جديد لتفسير السلوك السياسيِّ الصادر عن القادة العرب في دول الطوق إزاء الإبادة في غزَّة.
إذ يمكن ملاحظة أنّ القيادات السياسيَّة والعسكريَّة في القطاع تقدّم نمطاً مغايراً عن القيادة يختلف جذرياً عن النمط الَّذي يقدّمه الجيل الحالي من الحكَّام.
فبينما ينظِّر الجيل الحالي من حكَّام الدول العربيَّة إلى قيم السَّلام الحتميِّ وقلَّة الحيلة وضرورة السَّير في الرّكاب الغربيّ والميْل إلى الرفاه والأبَّهة والفخامة، فإنَّ قادة المقاومة يضربون الأمثلة في صناعة المعجزات والتضحية بالغالي والنفيس، حتَّى صاروا أبطالاً شعبيين في العالم العربي.
على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، يضع المراهقون صور الملثَّم ويحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية، في إشارة إلى كون هؤلاء الممثّلين الشرعيينَ الحقيقيين للأمَّة، وهو ما يزعج – بالتأكيد – الجيلَ الحالي من الحكام.
يقول ناصر اللحّام المحلل الفلسطيني البارز إنّ يحيى السنوار، الذي قضى معظم حياته في السجون الإسرائيلية، يحلم في قرارة ذاته بأن يكون "صلاح الدين" عصره، وقد وجد الإسرائيليون في أحد المواقع الَّتي تواجد بها وثائق عن تصوراته لإدارة فلسطين بعد التحرير، ويعِدُ الملثَّم بأن يكون محمد الضيف قائدَ الجيش الَّذي يصلي في المسجد الأقصى.
على ضوء معطيات علم النفس السياسي، فإنّ هذه الحالة من التأثير والإلهام في العالم العربيّ تضيف "بعداً شخصياً" لمساعي القادة العرب إنجاح الحملة العسكرية الاستئصاليَّة على غزة.
أسباب أخرى
يلاحَظ أيضاً أنّه مع طول المدَّة الَّتي قضت فيها أطنان المساعدات في طوابير الانتظار أمام المعبر، دون تقدّم حقيقيّ، بدأ بعض ضعاف النفوس، وبدافع الحاجة أو الطمع وسوء الطوية، في السَّطو على ما أمكن الوصول إليه من صناديق الإعانات.
وعلى شريحةٍ أكبر سلطويّاً، حققت شركة "هلا – العرجاني" مكاسبَ معتبرة، قدّرها صحفيّون استقصائيّون بملايين الدولارات من رسوم عبور القادرين من جحيم القطاع إلى جنَّة الجهة الأخرى من العالَم، حيث تتكدّس الشاحنات وتصمت المدافع، وهي التعريفة الَّتي لا تقلّ عن 5 آلاف دولار أمريكي للشخص الواحد.
وهكذا وصولاً إلى أعلى الهرم السلطويّ، لعبت معطيات "الاقتصاد السياسي" والاستفادة من الأزمة الإنسانية والتربّح على الأشلاء دوراً في تحديد أفق الاستجابة المصريّة، حيث تلقَّت مؤسسة الرئاسة نحو 50 مليار دولار أمريكي من الإمارات والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية النقديّة، مكافأةً تاريخيّة على الدور المخزي، وهو ما يتوقع أن يشمل الأردن والسلطة الفلسطينية قريباً.
وعلى وقع الشراكة الدوليَّة الجماعيَّة في الإبادة، ستربح دول الطوق، والخليج العربي من ورائهم، ورقةً رابحةً في أي سجالات حقوقيَّة مستقبلاً، إذ لن يكون لأي انتقادات غربيَّة للأوضاع السياسية في العالم العربي معنى أو وزن أو وجاهة، إن وقعت؛ بعد ما تلطّخت أيادي الجميع بالإبادة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.