قامت الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال الأسبوع الأول من أبريل/نيسان 2024 بتدمير القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال عدد من قيادات الحرس الثورى الإيراني، ما دفع إيران بعد مرور أقل من أسبوع على الضربة الإسرائيلية، لإطلاق عشرات المسيرات والصواريخ على إسرائيل بشكل مباشر.
لكن لماذا قامت إسرائيل بتلك الضربة على القنصلية الإيرانية واغتيال عدد من قيادات الحرس الثوري الإيراني؟
أتصور البواعث الآتية للسلوك الإسرائيلي:
أولاً، صرف أنظار العالم عن حملة الإبادة الإسرائيلية لغزة وصرف الأنظار عن القضية الفلسطينية التي يسمع العالم لأول مرة حقائقها والسردية الفلسطينية بعد أن احتكرت إسرائيل وسرديتها الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي طيلة ثمانية عقود. وبالطبع توقعت إسرائيل في حساباتها أن إيران سوف ترد فتكمل بالرد الإيراني كما كانت تنتظر إسرائيل، فدولة الاحتلال تعرف سلوك إيران في الظروف المختلفة ورد فعلها المتوقع.
ثانياً، نقل رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو من مجرم حرب ومتهم بالفساد وإبادة الشعب الفلسطيني ورئيس وزراء فاشل إلى بطل قومي في نظر العالم والداخل الإسرائيلي، فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يتظاهر أهالي الأسرى الإسرائيليين لإسقاط نتنياهو، لذا يسعى نتنياهو للهروب للأمام وحل جزء من أزمته الداخلية عن طريق جذب الشارع الإسرائيلي عن جر إيران لاشتباك مباشر، إذ إن هناك إجماعاً إسرائيلياً على عداء إيران.
ثالثاً، محاولة لتمكين أمريكا من إيهام بعض الدول العربية بالتحالف مع إسرائيل ضد العدو المشترك، عن طريق وضع إيران كعدو يهدد مصالحهم ومصالح إسرائيل، فتعيد واشنطن إحياء آمالها في إنشاء تحالف عربى إسرائيلي ضد إيران. وكان ذلك أملاً أمريكياً قديماً، فقد حاولت أمريكا تحقيق التحالف العربي الإسرائيلي ضد الاتحاد السوفييتي ولما فشلت لم يتبدد هذا الأمل، بل تسعى لإحيائه في الظروف الراهنة.
رابعاً، دق إسفين بين الحليفين سوريا وإيران وقد حاولت إسرائيل وأمريكا إبعاد إيران عن سوريا منذ عقود.
خامساً، تسعى إسرائيل لإخفاء فشلها المستمر في غزة، حيث لم تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، سواء في تحرير الأسرى أو القضاء على المقاومة.
أما عن الرد الإيراني فلم يكن له أثر على الأرض في إسرائيل ويمكن تكهن دوافعه فيما يلي:
شعور إيران بالإهانة خاصة بعد اغتيال قيادات من الحرس الثوري، ولإسرائيل سجل طويل في اغتيال الشخصيات الإيرانية، بما في ذلك علماء الذرة داخل إيران نفسها.
أما بالنسبة لضخامة الرد الإيراني، فقد بدا وكأنه استعراض للقوة، خاصة مع اقترانه بتهديد موجّه للولايات المتحدة في حال تعاونها مع إسرائيل للرد على الضربة الإيرانية. يبدو أن واشنطن قد أدركت جدية التهديد الإيراني، ما دفعها لتوجيه نصيحة لإسرائيل بعدم الرد عسكرياً، وبدلاً من ذلك، استغلال الوضع لتحقيق مكاسب سياسية من خلال تعزيز العلاقات مع الدول العربية في تحالف ضد إيران.
إيران تدرك تماماً أن الاعتداء على البعثات الدبلوماسية يعد اعتداءً على الدولة المضيفة. كما أن الادعاء الذي يردده بعض المعلقين في الإعلام العربي، بأن القنصلية الإيرانية تعتبر امتداداً للأراضي الإيرانية، لا يستند إلى الحقيقة، حيث إن نظرية الامتداد الإقليمي قد حلت محلها نظرية الوظيفة، لكن يبدو أن هؤلاء المعلقين بحاجة إلى تحديث معرفتهم القانونية، إذ تقع على عاتق الدولة المضيفة مسؤولية حماية البعثات الدبلوماسية، ويعتبر الاعتداء عليها خرقاً لالتزامات إسرائيل في القانون الدبلوماسي الدولي، وتستطيع سوريا وإيران رفع دعوى بهذا الخصوص أمام محكمة العدل الدولية.
ربما اعتقدت إيران أن الرد الذي هددت به منذ البداية سيحفظ مصداقيتها وهيتها أمام الرأي العام الدولي والداخلي. ولهذا السبب، رأت طهران ضرورة الرد، خصوصاً بعد أن صرحت مندوبة إيران في الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن بأنه لو كان المجلس قد أدان الهجوم الإسرائيلي، لما كانت بلادها بحاجة إلى هذا الرد. بذلك، يبدو الرد الإيراني كأنه استجابة لصمت الدول الكبرى تجاه عدم إدانة الهجوم الإسرائيلي.
كذلك، يُعتبر اختبار رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي والعربي مهماً، خصوصاً أن إيران قد حذرت الدول المحيطة بها في الخليج، والتي تحتوي على قواعد عسكرية أمريكية، من استخدام هذه القواعد ضدها، مؤكدة أن ذلك سيستتبع انتقاماً من جانبها. ولقد سبق الرد الإيراني تحذير لإسرائيل وأمريكا بأن الضربة الإيرانية كافية للرد على الإهانة، لكن أي رد إسرائيلي سيعني بالنسبة لإيران توسيع رقعة الحرب. لذلك، شددت الولايات المتحدة على إسرائيل بعدم الرد، وربما قدرت أمريكا أن المكاسب التي تجنيها الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة والعالم أوقع وأوفى من الرد العسكري.
عندما اجتمع مجلس الأمن بطلب من إسرائيل في 15 أبريل/نيسان 2024، زعمت كل من إيران وإسرائيل أن لكل منهما الحق في تطبيق حق الدفاع الشرعي عن النفس وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. المندوب الإيراني والمتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أكدا تمسك إيران بهذا الحق، كما أكد السفير الإسرائيلي في نيويورك الحق نفسه لإسرائيل، ما يثير التساؤل: من منهما أحق بحق الدفاع الشرعي قانونياً؟
توجد نظريتان في هذا السياق. النظرية الأولى ترى أن إسرائيل هي المعتدية وأن إيران، بصفتها حليفة سوريا، تستطيع أن تبرر ضربتها لإسرائيل بحق الدفاع الشرعي. ومع ذلك، يُعترض على هذه النظرية بأن الضربة الإيرانية لا تستوفي شروط المادة 51. وبهذا ننتقل إلى النظرية الثانية التي تقول إن لا إيران ولا إسرائيل لهما حق الدفاع الشرعي: إسرائيل لأنها دولة معتدية، وإيران لأنها لا تتعلق مباشرة بالعدوان الإسرائيلي على قنصليتها، فالعدوان الإسرائيلي ينتهك السيادة السورية، صاحبة الولاية على الإقليم السوري الذي تقع فيه القنصلية الإيرانية، ويعد الهجوم انتهاكاً للقانون الدبلوماسي الدولي وركنه الأساسي المتمثل في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961.
الخلاصة هي أن إيران أقرب إلى ممارسة حق الدفاع الشرعي من إسرائيل. ففي الوقت الذي لإسرائيل تاريخ طويل في استغلال مفهوم حق الدفاع الشرعي، آخره كان أمام محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2024 عندما كانت تحاول أن تبرر ما ترتكبه من مجازر وإبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة تحت ادعاء حق الدفاع الشرعي. لإسرائيل باع طويل في التلاعب والمناورة وضرب القوانين الدولية بعرض الحائط، فخلال عام 1967، بررت إسرائيل عدوانها على مصر بما سمّته "الدفاع الشرعي الوقائي"، وهو مصطلح لا يعرفه القانون الدولي. إن إسرائيل تعادي الجميع بينما إيران اليوم، هي من تلتزم بالقانون الدولي الدبلوماسي. بالإضافة لذلك، تحاول وقف بلطجة إسرائيل في المنطقة، عن طريق محور المقاومة التي تشارك من خلاله في الاشتباكات العسكرية مع إسرائيل. ومن هنا، يتضح أن إيران تدعم الحق، في حين أن إسرائيل تزداد عجرفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.