في الوقت الذي نطمح أن نقلص فيه من منسوب التعصب والكراهية الذي تعج به ملاعبنا الكروية، وأن ننضج تعاطينا مع كرة القدم حتى نقلل من أضرارها على الشباب وعلى المجتمع وعلى حالة الاحتراب والتشظي التي تؤججها داخل نفس المدينة أو المنطقة أو البلد أو في علاقاتنا العربية العربية، إذ بها تستحوذ على حيز أكبر مما يفترض أن تحوزه لعبة ترفيهية وذلك على حساب القضايا الجدية، على أن الأكثر فداحة مما سبق هو أن أحياناً هذه الرياضة تتملك عقولنا ومشاعرنا حتى أصبحنا ننقل طرق التفاعل معها لمجالات أخرى.
وهكذا ومع الانقسام السياسي الحاصل في منطقتنا أصبح أنصار كل تيار أو توجه يستعيرون أدوات التحليل الكروية للانتصار لموقفهم أو للتهكم من خصومهم، فالمزاج الحاد والغضب لأدنى سبب وهستيريا الفوز والسخرية المبتذلة كلها تتناسب مع سرعة دوران الكرة وحماس الجماهير مع إصابة الهدف أو التصويب باتجاه العارضة، ومع تضييع فرص الفوز وغير ذلك أسهم في التقلبات السريعة في نفسية محبيها خلال مدة زمنية قصيرة، كل هذا يحاول البعض أن ينقله إلى الحقل السياسي، وتكفلت منصات التواصل الاجتماعي بتوفير مساحات للأطراف المتعاركة إلى أن وصلت وتيرة التعصب السياسي لحدودها القصوى.
لعل المبدأ الأبرز الذي يتبناه بعض جماهير كرة القدم في منطقتنا هو عدم الاعتراف بالهزيمة، فلا بد أن تظهر المبررات، فتارة تحيز الحكم يكون هو السبب وهو الذي حرم فريقه من ضربة جزاء واحتسب هدفاً غير مشروع للفريق المنافس، وتارة أخرى يكون المناخ القاسي والملعب غير الملائم، وغيرها من المبررات التي لا تنتهي، وإن كان الفرق شاسعاً في مستوى الفريقين المتباريين وكانت الهزيمة مذلة ولا يمكن تغطيتها يعود للتاريخ ليثبت علو كعبه إحصائياً، أو ليتحدث عن أمور من الماضي تقدح في نزاهة خصمه ويضخمها ليعيره بها، رغم أن لا يوجد فريق يخلو من نقائص، ورغم أن ذلك النادي تجاوز تلك المرحلة وحقق الإنجاز الحالي عن جدارة واستحقاق.
في المقابل يختار لنفسه أزهى مرحلة ولا يغادرها ويضخمها ويعمل على أسطرتها، ثم يجتهد أكثر فيلحق إحدى المفردات المنتفخة مثل "العالمي" أو "القرن" أو "الأمة" على اسم ناديه، أما إن توارى عن الأنظار وافتقد القدرة التنافسية فدوره حينها يكمن في المشاغبة على تألق غريمه فيدعم الجميع ضده، وهكذا فإننا لا نخرج بنتيجة أبداً من هذه الحوارات العقيمة، ومن النادر جداً أن نلمس الإنصاف والتجرد فيها.
في المجال السياسي هذا ما نجده في النقاشات أو قل في المناوشات والملاسنات بين مختلف الفرقاء، فلا أحد يعترف بخطئه رغم أن الشواهد كثيرة على فشل هذا التنظيم أو ذاك المحور، بل إن هناك من يستميت في الدفاع عمن يناصره حتى لو تجاوز الإخفاقات إلى التورط في ممارسات تنسف مبادئه وتطعن في شرعية وجوده، فلا تفتر حماسته عن تبرير ما لا يبرر، خلافاً لما سبق عندما سادت نبرة توفيقية ذكية يضطر فيها المحاور للاعتراف ببعض سلبيات توجهه، ثم يقنعك بأن إيجابياته أكبر كأن يقول إن هناك إشكالات في مجال حرية التعبير، إلا أن نظامنا ممانع أو أننا نتقدم في المسلسل الديمقراطي وأننا نحتاج إلى الوقت لتصقل تجربتنا، أو أن توجهنا إن لم يكن الأفضل فهو أقل سوءاً من غيره.
أما اليوم فالسائد عند مناصري الأنظمة المختلفة هو التسليم التام بأداء مسؤوليهم دون نقد بناء، فأصبحت بلدانهم حسب البروباغندا المكثفة تزاحم الدول النافذة عالمياً. وهناك أيضاً من تجاوزتهم الأحداث فتخففوا من كل مبادئهم وأصبحوا بلا مشروع أو رؤية أو أي فعل ميداني جماهيري، لكنهم حافظوا على عدائهم وكراهيتهم لغريمهم، والذين يحرصون على مناكفته في كل الحالات، فإن سكنت حركته قليلاً اتهموه بالخيانة، وإن صعد رموه بالتطرف وبجر البلاد إلى الخراب، وهؤلاء يعوز منطقهم الزئبقي التماسك والانسجام من شدة تقلبهم، وأكثر من يمارس هذا الأسلوب أصحاب "الرصاصة الأولى" ضد من استلم مشعل المقاومة بدلاً عنهم وعلى غير رضاهم.
ثمة من يربط أساليبنا السياسية بموروثنا القبلي، وقد يصح هذا الأمر لكن في حدود، ذلك أن الحياة في المجتمعات القبلية رتيبة ولا تعرف التقلبات التي نعيشها اليوم، والتي تبلغ ذروتها في الترفيه الكروي، كما أن التواصل يبقى محدوداً بين أنصار القبائل المختلفة، أما في زمن التواصل الاجتماعي فقد وجدت شعوبنا المقموعة فضاءً مفتوحاً يُسَهِّلُ من الالتقاء مع المخالف قبل الموافق، وقد دخلت له مستثمرة بضاعتها الهزيلة في الحوار اكتسبتها من دربتها التي وفرها لها عالم كرة القدم والتي لم يُسمَح لها بالتعبير عن آرائها إلا فيه وإن بشكل نسبي.
لن نجد صعوبة إذاً في اكتشاف بعض أوجه التشابه بين المجالين حتى إن هناك تطابقاً بين بعض أساليب الذباب الإلكتروني الموجهة لشيطنة شخص أو تنظيم أو تيار وبين صياح المدرجات الذين يدفعهم تيار نافذ داخل الإدارة أو من أصحاب الأموال للضغط على المدرب ولاعبيه من داخل المدرجات بالشتم والتشهير، غير أن المفارقة أن جانباً مهماً من جمهور الكرة بات يتمرد على أي توجيه، وهو وإن كابر أمام خصومه، فإنه حين ينزوي حول ذاته يقسو على مسؤوليه بالنقد اللاذع، فيما قلَّما يحاسب جمهور السياسة زعامته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.