الصراعات والحروب في العالم تسير وتخضع لسيطرة الأكثر قوة، وبعبارة أخرى، العلاقات الدولية مبنية على موازين القوة لا المفاهيم الأخلاقية المعترف بها بشكل جماعي أو على القواعد التي قد يصفها البعض بالمثالية.
بشكل عام تتحرك الأنظمة والدول بهدف تحقيق مصالحها الوطنية غير آبهة بتطبيق القواعد أو القوانين الدولية. فالدول التي انتهكت أو تنتهك ما يسمى بالقواعد الدولية في ظل نظام عالمي متقلب، إما أنها لم ولن تتعرض للعقوبات، أو أن العقوبات إذا فرضت غالباً لم أو لن يكون لها أي تأثير كبير. ولذلك، يمكن انتهاك القواعد بشكل علني من قبل الدول التي تثق بنفسها معتمدة على قوتها الاقتصادية والعسكرية ودرجة تأثيرها إقليمياً ودولياً وكذلك على شكل التحالفات التي تملكها وتقييمها.
والحرب المستمرة في الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبوتيرة أشد مما سبق أي منذ يونيو 1982 حين بدأ الاحتلال عملية غزو لبنان، أصبح على وشك الانتقال إلى درجة أخطر نحو حرب إقليمية لا يمكن تقدير ما يتبعها بشكل يقيني.
إذ يقدر كثير من المحللين أن تل أبيب عندما أعلنت الحرب على غزة بعد ساعات من عملية طوفان الأقصى، لم تكن تتوقع أن تتطور المواجهة على الشكل الذي سارت به حتى الآن ولا أن تعجز عن تحقيق أهدافها المعلنة حتى بعد اقتراب المواجهة العسكرية من يومها الأول بعد المئتين.
يوماً بعد آخر تتسع نيران الحرب على غزة سواء بشكل مباشر أو غيره، حتى إن وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت قال: "نحن في حرب متعددة الجبهات ونتعرض للهجوم من 7 مناطق: غزة ولبنان وسوريا والضفة الغربية والعراق واليمن وإيران، قمنا بالرد بالفعل واتخذنا إجراءات في 6 من هذه المناطق". وأضاف غالانت: "من دون تحقيق أهداف الحرب، ستكون المشكلة أن الناس لن يرغبوا في العيش في مكان لا نعرف فيه كيف نحميهم"، وهذا اعتراف بأن هناك خطراً وجودياً لاستمرار احتلال فلسطين.
وقد تبادلت إيران وإسرائيل الضربات واختلف المحللون ووسائل الإعلام في تقدير مدى انتصار كل طرف، ولكن ما الواضح لجميع وما لا خلاف عليه أن عملية استقطاب للقوى الكبرى في تلك الحرب إلى جانب الطرفين قد أصبح أكثر جلاء من أي وقت مضى.
حرب غزة و الاستقطاب في النظام الدولي
ازدادت محاولات الولايات المتحدة لعسكرة الغرب وإعادة استقطاب العالم، خصوصاً بعد الحرب الروسية. فبرزت كيف تدافع الإمبراطورية الأمريكية عن هيمنتها بوضوح، لا سيما بعد أن صعدت واشنطن من موقفها المعادي تجاه الصين، وجهودها المستمرة لتشويه سمعة أي طرف يحاول تحدي سطوتها على النظام العالمي. الحرب الجارية في غزة اليوم تعكس هذا الاستقطاب بشكل أكثر جلاءً، حيث تبنت الولايات المتحدة موقفاً صريحاً وداعماً للاحتلال الإسرائيلي، الذي رمى بكل القوانين النظام الدولي وقواعد عرض الحائط، تلك القوانين والقواعد التي كانت اتخذتها حجة للحد من تصاعد نفوذ روسيا حين بدأت الحرب الأوكرانية، ما يؤكد الطابع الإمبريالي للهيمنة الأمريكية ويشير لسقوط ما تبقى من الادعاءات الأخلاقية لهذه الهيمنة. في الوقت نفسه، تحولت الخطابات التي تنادي بنظام دولي متعدد الاقطاب والتي كان قادة كل من إيران وتركيا وروسيا والصين إلى ما يشبه رغبة شعبية عالمية ملحة ورغبات سياسية تنادي بتحرير دول الجنوب وإرساء نظام دولي لا تسيطر فقط عليه دولة واحدة. وربما هذا يفسر المظاهرات التي تجتاح شوارع أوروبا وأماكن أخرى، والتي تعكس تحولاً في المزاج الشعبي ضد إسرائيل و الأنظمة الغربية، التي طالما تغنت بشعارات حقوق الإنسان التي تسحقها اليوم بدافع المصالح.
اليوم أكثر من أي مضى، الاستقطاب في النظام الدولي اليوم يعكس تجليات معقدة تتخطى مجرد الرغبات والخطابات فقط، فبينما يرى الغرب أن حربه في أوكرانيا مقدسة وأنه لا حياد عن دعم إسرائيل بلا حدود لاستمرار الهيمنة الغربية في الشرق الأوسط، تبرز ديناميكية مختلفة بين قوى مثل روسيا والصين وإيران، حيث يشكّل التحالف الضمني بين هذه الدول تلاقي مصالح وضرورة استراتيجية لكسر الهيمنة الاقتصادية الغربية والتصدي للتهديدات الأمنية والسياسية المستمرة. هذا التلاقي في المصالح ربما يفضي إلى سعى جاد في القريب لإعادة تشكيل توازن القوى العالمي، بما يعكس تحولات عميقة في النظام الدولي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.