قُل للغياب: نقصتني!. وأنا حضرت، لأُكملك.
محمود درويش
في ظل الغربة القاسية وتجربة الانقطاع العميقة، يعيش طلبة غزة المغتربون حياة تمزقها تناقضات مؤلمة. يجدون أنفسهم محاصرين بين شقي رحى: الألم الشخصي النابع من فقدان الوطن، وهو جرح نازف يرافقهم في سفرهم البعيد عن الديار، والألم الجماعي الذي يغذيه مدّ مستمر من الأخبار الوخيمة. هذه الأخبار، التي تحمل صدى عدوان لا يفرّق بين الصغير والكبير، تضخ في قلوبهم شعوراً بالعجز والقلق يوماً بعد يوم.
بهذه الطريقة، يكافح هؤلاء الطلبة لاحتواء تجاربهم الجديدة ومعاناتهم البعيدة، ممزقين بين عالمين: أحدهما يحمل وعود المستقبل والتحصيل العلمي والآخر يربطهم بماضٍ وحاضر تسوده الآلام والمحن. كل يوم يقضونه في الغربة، بينم تستمر طائرات الـF16 بقصف الوطن، يحاولون إعادة تعريف أنفسهم والعالم من حولهم، بعد أن فقدوا كل معنى وأمل فيه ومنه، محاولين بيأس أو شجاعة لا أدري أن يجدوا لأنفسهم مكاناً يحمون فيهم ذواتهم من التشظي إلى أن يلتئم الوطن الذي يحاول المحتل تمزيقه إلي الأبد.
في متاهة الاغتراب، يجد الطلاب الفلسطينيون في الخارج أنفسهم يعيشون على حافة عالمين متباعدين. من جهة، قلوبهم وعقولهم معلقة بأحداث الحرب التي تشق وطنهم، محملين بثقل الأخبار التي ترسم صور الدمار والفقدان. ومن جهة أخرى، يجدون أنفسهم مجبرين على المضي في حياة تطلب منهم أن يتفاعلوا ويتأقلموا مع الواقع الجديد الذي يعيشون فيه، وكأن لا شيء يحدث هناك على الضفة الأخرى من البحر.
بين رحى الغربة والحرب
هذا الوجود المزدوج يخلق حالة من الاغتراب المضاعف؛ فهم لا يشعرون بالانتماء الكامل لا إلى البيئة التي تحيط بهم ولا إلى الوطن الذي يحترق بعيداً عنهم. هذا الشعور يحول دون قدرتهم على الشعور بالذات، سواء في موطنهم أو في الأرض الجديدة. يجدون أنفسهم عالقين بين ماضٍ لا يمكنهم العودة إليه وحاضر يتطلب منهم التأقلم والتعايش مع ظروف لا تعكس حقيقة مشاعرهم أو تجاربهم الشخصية.
كل يوم يعيشونه يشكّل تحدياً لكيفية التنقل بين هاتين الحياتين، محاولين جاهدين الحفاظ على توازن نفسي وعاطفي في بيئة تظل غريبة بالنسبة لهم. يبقون، إذاً، مغتربين عن كل شيء، ممزقين بين ولاءاتهم ومسؤولياتهم، بين الماضي الذي يعرفونه والحاضر الذي يعيشونه.
لكثير من الطلاب الفلسطينيين في الخارج كانت تشكل الدراسة ملاذاً من القسوة التي يفرضها الاحتلال، وطوق نجاة يبدو كفرصة ذهبية لبناء مستقبل يسهم في قدرتهم على المقاومة واستعادة أرضهم. إذ كان يسعى أغلبنا للتميز الأكاديمي بكل مثابرة وإصرار، معلقين آمالنا على أن يتحول تعليمنا إلى أداة مقاومة. لكن ومع كل ذلك، وسط الدمار الذي يشهده الوطن، قد يبدو هذا الأمل بالمستقبل أحياناً وكأنه يبتعد عن جيلنا.
تلعب الذاكرة دوراً ثنائياً في حياة الإنسان؛ فهي تحفظ له اتصاله بجذوره وتزيد من وطأة الحنين إلى الأماكن واللحظات التي كبر فيها. كل ذكرى، سواء كانت تحمل طابعاً سعيداً أو مؤلماً، تظل ملتسقة بالإنسان، تؤثر عليه بعمق. فلكم أن تتخيلوا معي، لبشر غادروا غزة لدراسة، ولا يمكنهم العودة الآن لا لشيء لأنها محتلة وبيوتهم فيها لم تعد موجودة، كيف تسهم الذاكرة في شعورهم بالاغتراب عن كل شيء، وربما تزيد من تعقيد أسئلتهم الوجودية للتكيف والتعايش مع الواقع الجديد الذي يواجهونه.
هكذا، بينما يحاولون بناء مستقبلهم، يجدون أنفسهم مستمرين في معركة شخصية وجماعية مستمرة، يكافحون فيها للحفاظ على هويتهم وذاكرتهم وأملهم وسط عالم يبدو غالباً أنه لا يأبه بهم. ولعلي اليوم فهمت كلمات محمود درويش حين قال:
سيري ببُطء يا حياة لكي أراكِ
بكامل النقصان حولي..
كم نسيتُك في خضمّك باحثاً عنّي وعنك،
وكلما أدركت سراً منكِ قلتُ بقسوةٍ:
ما أجهلك!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.