حقق مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" الذي عُرض خلال النصف الأول من رمضان الفائت نجاحاً كبيراً رغم أنه استعان بفريق من الممثلين لم يتضمن نجماً واحداً من هؤلاء النجوم الذين يقول عنهم الجمهور قبل بداية الموسم الرمضاني "هنتابع فلان وفلانة"، كما أن كاتبة المسلسل، سمر طاهر، والمخرجة ياسمين أحمد كامل، لا تملكان أي رصيد عند الجمهور لعدم معرفة الجمهور بهما مسبقاً.
ولعل ذلك، ما جعل نجاح المسلسل مفاجأة حتى بالنسبة لطاقم العمل نفسه، فقد أوضحت بطلته سلمى أبو ضيف والفنانة القديرة انتصار أنهما لم تصدقا هذا النجاح، وحتى الفنان محمد محمود الذي اعتبر منذ البداية أن المسلسل هو "الحصان الأسود في رمضان"، فصرح: "لقد تفاجأت بأننا نجحنا منذ اليوم الأول لعرض المسلسل، فقد كنت أظن أن النجاح سيأتي في النهاية".
برومو يعد بإمكانيات هائلة
أعتقد أن نجاح المسلسل كان مؤكداً إلى حد بعيد منذ ظهور البرومو؛ إذ وعدنا من خلال جملة قصيرة تصدح في أول بضع ثوانٍ منه تقول: "الفقر وحش يا سحر"، فعرف الجميع أنه ربما سيحكي عنا، نحن الطبقة الأكبر في المجتمع المصري التي تفهم بشكل عميق أن الفقر قبيح جداً، لأننا نعيش قبحه وامتهانه لإنسانيتنا كل يوم خلال هذه السنوات المريرة التي تدفعنا أيامها نحو فقر أقبح وأقبح بسرعة جنونية.
جاءت صورتنا وصورة بيوتنا وأحيائنا الشعبية في البرومو، مخالفة لما صورته تجارب سينمائية وتلفزيونية مصرية أخرى خلال العقدين الماضيين، والتي عرضتنا كما لو أنها معرض من معارض الاستشراق في القرن التاسع عشر التي تمسخ ثقافات أهل المشرق للرجل الأبيض باعتبارها صوراً لكائنات غرائبية ومشوهة وفوضوية وعنيفة.
أما العنصر الأخر، الأكثر إثارة وتشويقاً والذي صرح به البرومو، فهو تناول قضية "فتيات التيك توك" اللاتي شغلن المجتمع المصري منذ 2021 وحتى وقت قريب، تلك القضية التي أظهرت جدليات كبيرة عن علاقة السلطة بجسد المواطن ووجوده في حد ذاته، سواء على أرض الواقع أو في الواقع الافتراضي، وتصاعد ثقافة القمع بشكل فج، والتساهل مع امتهان حقوق النساء.
بينما تقف في الخلفية وراء كل تلك المشاكل الاجتماعية، الهوة الاقتصادية التي خلقت شرخاً طبقياً يزداد عمقاً كل يوم ويقسم المصريين إلى شعبين؛ أهل مصر وأهل إيجيبت، عالمين منعزلين تماماً ينظران لبعضهما البعض نظرة خوف وكراهية، لكن الأسوأ من كل ذلك أن الراعي يقسم رعيته إلى شعبين ويرتضى لأحدهما ما لا يرتضيه للآخر.
لقد ألقت قضية فتيات التيك توك حينها الضوء على أمراض اجتماعية عضال، فتباينت آراء الرأي العام بين المتعاطفين معهن، والذين نصبوا لهن المشانق في محاكمات شعبية غوغائية تحكم عليهن بقوانين سائلة لا تملك قواماً يحدد لها شكلاً واحداً يتفق عليه الجميع هي "مبادئ وقيم الأسرة المصرية".
إنها القضية التي عرفت الكاتبة والمخرجة أنها ستجذب الجمهور لأنه ورغم أن تفاصيلها ملأت الإعلام وتكررت النقاشات حولها حد الملل، إلا أن الكثير من تفاصيلها العميقة ظلت خفية، وفي داخلها قصص جديدة تستحق أن تجد لنفسها مساحة على الشاشة الفضية.
وبدأ المسلسل: حكاية من لحم ودم
لأن كل تفاصيل القصة قد تم سردها بالفعل، فإن الاختبار الأهم الذي نجح فيه المسلسل بعد عرضه هو بناء الشخصيات، التي تُعد مربط الفرس في هذه القصة. فماذا نعرف عن هؤلاء الفتيات بعيداً عن صورهن وفيديوهاتهن على منصات التواصل الاجتماعي؟ وماذا نعرف عن حياتهن قبل أن تكون لهن حسابات على هذه المنصات؟ وكيف أدى واقعهن الاجتماعي إلى وقوعهن في قفص الاتهام حيث حُكم عليهن بالسجن والغرامة لأنهن "اعتدين على مبادئ الأسرة المصرية"؟
عُرض المسلسل بست عشرة حلقة، وأصبحنا أمام عمل فني متكامل يجب الحكم عليه بكل تفاصيله الفنية، وليس فقط من خلال إعجابنا ببرومو قصير مصمم لجذب انتباهنا وإعطائنا ويمنّينا بالكثير، وهنا كشف العمل الفني عن نفسه بما فيه من الجيد والردئ.
نجحت الكاتبة الواعدة سمر طاهر فيما تفشل فيه معظم الأعمال الدرامية المصرية، وهو بناء شخصيات قوية تستطيع أن تحول الفكرة والعمل الدرامي إلى شخصيات حية من لحم ودم تروي القصة بنفسها دون الحاجة إلى اللجوء للوعظ المباشر الذي قد يكون مملاً وسخيفاً.
ظهرت شخصيات سمر طاهر متسقة سلوكياً وتاريخياً منذ ظهورها الأول وحتى آخر مشهد، وبغض النظر عن بعض الهفوات البسيطة، لم تظهر أي من الشخصيات ناقصة، أو متناقضة مع مكوناتها النفسية التي قُدمت لها.
وإن لم يكن الأداء البديع للفنانة انتصار في دور الأم حمدية مفاجئاً، فإن أداء سلمى أبو ضيف في دور شيماء كان مفاجئاً بشكل كبير، فلقد أثبتت أبو ضيف من خلاله أن التجربة والعمل الجاد قادرين على استحضار الموهبة.
مسلسل أعلى نسبة مشاهدة.. التململ في حدود المسموح به
نجح المسلسل في صنع وتقديم توليفة فنية، أو كما وصفتها كاتبته في لقاء صحفي بأنها "طبخة"ذكية ولذيذة، تستحق تقديراً كبيراً، ليس لمجرد نجاحها الفني والجماهيري، وإنما لتحقيقها ذلك بينما تتحرك في حدود الإملاءات الرقابية التي ترسم من خلالها الرقابة حدوداً ضيقة للفن المصري منذ حوالي عقدين.
تظهر تلك الإملاءات بوضوح من خلال عدة صور في المسلسل، منها على سبيل المثال، صورة السجن التي جاءت متوافقة مع رؤية الدولة لمصر كبلد نظيف وجميل ومتطور، وكذلك صورة الحي والبيت الشعبي التي جاءت جميلة ونظيفة ومُهندسة بعناية فائقة بيد مصمم ديكور محترف، حتى إننا لم نر الجدار المقشر الذي أرادت شيماء طلاءه بشدة، مما جعلنا نسأل أين هذا الجدار القبيح الذي دفع شيماء لاتخاذ قرارات شديدة الخطورة في سياقها الاجتماعي؟!
على مدار الحلقات، ومع التأمل في صورة البيت والحي الشعبي التي ظهرت حميمية في البرومو، بدت هذه الصور مستفزة وغير واقعية ومتناقضة مع الصراع النفسي الذي أجادت الكاتبة طاهر في بنائه بين الشخصيات ووضعها الاقتصادي والاجتماعي.
الفقر ليس جميلاً ومرتباً
تذكّرنا تلك الصورة الحميمية للفقر بنقيضها التام في فيلم "ريش" الذي عُرض في عام 2021. والذي تعرض لهجوم كبير، وكان على رأس المنتقدين الفنان شريف منير، الذي غادر عرض الفيلم في مهرجان الجونة وصرح بأن الفيلم كان مهيناً لسمعة مصر لأن "القذارة الرهيبة" التي رآها الفنان في الفيلم جرحت مشاعره.
كانت مشاهد القذارة في فيلم "ريش" شديدة فعلاً ومثيرة للغثيان، حيث بدت المشاهد مقززة لدرجة تجعل المشاهد يشعر بأن الروائح الكريهة تزكم أنفه والقذارة تلامس جلده، ولكن الحقيقة التي ربما يجهلها السيد منير أن الفقر قذر وقبيح ورائحته مقرفة بالفعل، لكن المشكلة تكمُن أن ربما السيد منير لم يرَ هذا القدر من الفقر بنفسه أبداً.
ولذلك، نجد أنفسنا دائماً أمام خيارين في الدراما المصرية: إما أن نعرض الفقراء ومحيطهم كأنهم آثار من ثقافة غرائبية تمتعنا بعنفها المثير للأدرينالين وتشوّهها المحفز لفضول الناظرين، أو نصورهم بشكل رومانسي يلطف قبح الفقر حتى لا نؤذي عين ومشاعر المشاهدين، أما الخيار الثالث، الذي يعرض الفقر دون تجميل ويتعاطف مع الفقراء كما في حالة فيلم "ريش"، فربما يؤدي بالمخرج إلى التهلكة بسبب إيذاء مشاعر مرهفين المشاعر أمثال السيد شريف منير.
ويعلم المصريون جميعاً أن الفقر الذي يرسمه المسلسل من خلال الصراع النفسي لشخصياته، والذي يقود بطلته شيماء إلى قفص الاتهام، هو فقر قبيح ومريع يشبه ما تم تصويره في فيلم "ريش" وليس الفقر الرومانسي الذي يتوافق مع رؤية الدولة ورقابتها.
ولا تقف الإملاءات الرقابية عند الديكور والتصاميم، إذ يأتي مشهد المحاكمة في الحلقة الأخيرة صورةً أخرى من إملاءات الرقابة، حيث يكون المشهد وعظياً مباشراً يكرر فيه القاضي مراراً أنه لا يحكم إلا بالعدل، ولكن أليس العدل هو طبيعة عمل القاضي، فلماذا الحاجة للتأكيد المستمر على هذه النقطة؟!
تناول المسلسل القضية مستغلاً كل المساحات المسموح بها، ولكنه ورغم ذلك جاء مبتوراً يعالج جدلية واحدة من الجدليات التي طرحتها قضية فتيات التيكتوك وهو الفقر، وحتى هذا أظهرته الكادرات ملطفاً ورومانسياً. لم يتمكن المسلسل من الاقتراب من باقي الجدليات على خطورتها، وهو أمر مفهوم نظراً للمخاطر المرتبطة بتلك الجدليات عند الدولة والتي يمكن أن تحرق من يقترب منها، مما يدعو للتساؤل إذا كان بالإمكان تقديم شيء أفضل مما كان.
الفن في مواجهة المساحات الضيقة
إن المساحة التي يتحرك فيها الفن المصري منذ عشرين عاماً تشبه إلى حد بعيد تلك الظروف الضيقة التي وجدت فيها السينما الإيرانية نفسها سجينتها بعد الثورة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، حين أقدم بعض الثوار على حرق دور السينما ودعوا إلى تطهير الفن، فوجدت السينما في إيران نفسها رهينة لسنوات من الفوضى وغياب القوانين، مما دفع العديد من روادها إلى الهرب.
لكن حتى أشد السلطات قمعاً وديكتاتورية لا تستطيع تجاهل الدور المحوري للسينما؛ لذا أعلن آية الله الخميني أن "السينما يجب أن تُستخدم في تثقيف الشعب؛ لكن دون أن يُساء استعمالها"، وانفرجت الأزمة قليلاً مع تولي محمد خاتمي وزارة الثقافة، ليبدأ عصر جديد من "السينما الإسلامية".
هذا المفهوم الجديد والغريب لم يكن مفهوماً في ذلك الوقت من قبل رواد الصناعة الإيرانية العريقة، ولكنهم نجحوا في اختبار كان يُعتقد أنه محكوم عليهم فيه بالفشل من البداية، وقدمت السينما الإيرانية الإسلامية أفلاماً عبرت عن الإنسان بكل تعقيداته وتناقضاته التي تخلق أزماته وتشكل جمالياته.
رغم ضيق المساحة التعبيرية، تمكنت السينما الإيرانية من وضع نفسها على قمة السينما العالمية، لأنها استطاعت مناورة الحدود الضيقة والتخفي وراء الشعرية السينمائية وتطويع اللغة والمجاز. جاءت أفلامها كقطع شعرية تتشكل من طبقات الصوت والكادر والضوء وكل عناصر الصورة السينمائية.. طبقات من المعنى تحفز العقل ليخترق السطح ويغوص بعيداً بين طياتها.
فهي سينما لا تعتمد على نجوم، بل ترتكز على الإنسان العادي، وكما تقول رفيدة طه في مقالها "السينما الإيرانية.. كيف تُبدع وأنت تختنق؟": "حين أرادت السلطة أن تستخدم الفن لتصنع من رعاياها نسخاً مكررة تحمي بقاءها أبداً؛ صنعت السينما من أبسط البسطاء نجوماً، واعتمدت على ممثلين هواة".
احذر الحقيقة قابلة للاشتعال
حين أصبحت الحقيقة في إيران شمساً تحرق من يقترب منها أصبح البديل هو الكذب، وكلوحة من فسيفيساء أصبحت الأفلام عبارة عن كذبات متتالية تتراصّ بجوار بعضها البعض لتصنع في النهاية شيئاً يشبه الحقيقة، أو كما يقول المخرج الإيراني عباس كيارستمي: "علينا أن نحاول ربط الأكاذيب للوصول إلى حقيقة أعظم، لعالم يبدو حقيقياً، الأكاذيب التي ليست حقيقية؛ لكنها صادقة بطريقة أو بأخرى، هي حيلتنا الوحيدة." فعندما يُمنع الفن السابع (السينما) من الاقتراب من الحقيقة لا يجد المعنى مفر سوى الاختباء وراء الرمز، سواء كان هذا الرمز حركة، أو ظلاً، أو نظرة، أو تكرار حدث، أو جملة عفوية تجري على لسان طفل.
بالرغم من نجاح مسلسل "أعلى نسبة مشاهدة" في تصوير الإنسان وتعقيداته والانتصار لمظلوميته إلى حد بعيد، إلا أنه تكاسل عن التحليق في رحاب المجاز والتورية، وارتضى بالتحرك ضمن الحيز الضيق الذي تسمح به الرقابة.
إذ كان بإمكان الكاتبة والمخرجة أن تلجآ إلى المواربة والتخفي وأن تستعينا بالرمز لإخفاء المعنى العصيّ على البوح. كما كان بإمكانهما التلاعب بالكذب لتصنعا منه شيئاً يشبه الحقيقة. ولكن، ربما ما زلنا أمام موهبتين في بداية مشوارهما، وربما قريباً سوف تحلّقان إلى ما هو أبعد من توقعاتنا، وتصلان -رغم مقاصل الرقابة وإملاءاتها، أو بسببها- إلى مساحات أكثر رحابة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.