لقد تم الاعتراف بالسينما منذ فترة طويلة ليس فقط كشكل من أشكال الترفيه، بل كوسيلة عميقة يتم من خلالها نقل جوهر الواقع وشرح تعقيدات الحياة؛ إذ يعتقد الكثيرون، اليوم، أن جودة الفيلم تعتمد على مدى قدرته على عكس الحياة، وعرض تعقيداتها بطريقة يسهل الوصول إليها بسلاسة. هذه القدرة تجعل السينما أداة فريدة لاستكشاف الحياة وفلسفاتها، وتشريح الطبيعة البشرية، والأخلاق، والمعضلات الوجودية التي تسود حياتنا.
كانت الأفلام العالمية، وأرى بشكل خاص تلك القادمة من إيران، محورية في استكشاف الإنسان والحياة وتعقيدات؛ إذ تقدم السينما الإيرانية، بأسلوبها السردي المميز وعمقها الفلسفي، منظوراً فريداً لواقع الحياة.
السينما كأداة فلسفية
الأفلام هي أكثر من مجرد قصص تُروى على الشاشة؛ إنها استفسارات فلسفية بصرية وعاطفية. تطرح السينما، من خلال لغتها السردية والبصرية، أسئلة حول الحياة والمجتمع والأخلاق والعلاقات الإنسانية. تتحدى هذه الأسئلة المشاهد، وتدفعه لتفكير بشكل أكثر فاعلية في معتقداته وأفكاره وطبيعة العالم حول.
على سبيل المثال، تنتشر المواضيع الوجودية في العديد من الأفلام، حيث تتصارع الشخصيات مع قضايا الهوية والمعنى والغرض. إن قدرة صانعي الأفلام على تضمين هذه المواضيع في سيناريوهات الحياة اليومية تسمح للجمهور بمواجهة هذه القضايا الفلسفية بطريقة يمكن ربطها. لقد أتقن مخرجون مثل المخرج السويدي إنجمار بيرجمان وأكيرا كوروساوا مخرج الأفلام والرسام ياباني الشهير هذا التكامل، مستخدمين أفلامهم لاستكشاف موضوعات مثل الموت ومعنى الحياة بأسلوب يلقى صدى لدى جمهور متنوع.
هل الأفلام والمسلسلات مهمة في حياتنا؟
حول العالم، استطاعت الأفلام من مختلف الثقافات من تقديم وجهات نظر فريدة عن الحياة والواقع وتعقيداته بشكل بسيط. فنلاحظ في السينما الفرنسية، على سبيل المثال، غالباً ما تستكشف الضيق الوجودي وخيبة الأمل الرومانسية، كما يظهر في أفلام مثل "Amélie" أو "The Intouchables". على الرغم من أن هذه الأفلام مسلية للغاية، إلا أنها تقدم نظرة ثاقبة لتعقيدات التطلعات الفردية والتوقعات المجتمعية.
وبالتحرك شرقاً، توفر السينما التركية والعربية رؤى عميقة للحالة الإنسانية، والتي غالباً ما يتم وضعها على خلفية الاضطرابات السياسية والتغيير الاجتماعي. فنجد الأفلام التركية تغوص في تعقيدات النفس البشرية ببساطة وبطء ليتمكن الجميع من ملاحظته، مثل فيلم "نوم الشتاء" للمخرج نوري بيلجي جيلان، نعيش كمشاهدين الأزمات الوجودية والمعضلات الأخلاقية التي تواجهها شخصيات الفيلم، في إطار مناظر طبيعية صارخة وجميلة تعكس المناظر الطبيعية الداخلية لشخصياته. يستكشف الفيلم صراعات عائلية ومجتمعية عميقة، باستخدام إيقاع تأملي بطيء يسمح للجمهور باستيعاب الأسس الفلسفية للسرد، والتي يرى فيها نفسه كمرأة.
بينما في السينما العربية، لفت مخرجون مثل نادين لبكي الاهتمام العالمي إلى القدرات السينمائية، فمن خلال فلمها "كفرناحوم" استطاعت بشكل مذهل وجرئ كيف تكون الحياة على هامش المجتمع، من خلال تسليط الكاميرا فقط على كفاح صبي صغير، فاستطاعت بخفه أن تسلط الضوء على قضايا اجتماعية أوسع مثل الفقر والحقوق ومحاولة الإنسان البقاء على قيد الحياة في العالم حين تغيب العدالة.
ما أحاول قوله أن الأفلام تستطيع بخفه نقل الواقع والحقيقة القاسية التي ربما يتجاهلها البعض لأسباب كثيرة، بشكل أعمق من الأخبار والكتب والتحليلات السياسية، إذ تمزج السينما الأسئلة الفلسفية حول العدالة والمصير والحياة بخفه وبساطة في حكايات صغيرة.
فعلي سبيل المثال، إذ رأينا السينما الإيرانية بواقعيتها الشعرية وعمقها الفلسفي، في تصويرها لدقائق الحياة. سنلاحظ كيف يستخدم صانعو الأفلام هناك مثل عباس كياروستامي وأصغر فرهادي روايات بسيطة ولكنها قوية لاستكشاف موضوعات الغموض الأخلاقي، والعدالة الاجتماعية، والقدرة على الصمود البشري في العالم. فنرى فيلم كياروستامي ربما المعروف لجميع "طعم الكرز"، يتساءل عن قيمة الحياة من خلال سعي الرجل للعثور على شخص يدفنه بعد انتحاره، يوضح هذا بشكل بسيط للغاية.
يعد فيلم "انفصال" لأصغر فرهادي مثالاً ممتازاً آخر؛ إذ يتعمق هذا الفيلم في تعقيدات القناعة الأخلاقية داخل الأسرة والمجتمع، ولا يقدم إجابات سهلة ولكنه يقدم صورة واقعية للتحديات التي تواجه اتخاذ القرارات الأخلاقية. لا تصور هذه الأفلام حقائق الحياة فحسب، بل تتناول أيضاً أسئلة أخلاقية وفلسفية عميقة يواجهها ربما جميع البشر يومياً.
تأثير السينما.. هل يمكن للأفلام أن تعبر عنا أكثر منا؟
إن تأثير السينما كبير، حيث لا تؤثر على حياة المشاهدين اليومية فحسب، بل تؤثر أيضاً على شكل المجتمعات والمؤسسات بشكل عام في جميع أنحاء العالم؛ إذ يدفع التصوير الفلسفي والواقعي في هذه الأفلام بعض الأحيان البعض إلى إجراء حوار متخطي التحيزات حول القضايا الإنسانية المشتركة، وسد الفجوات الثقافية وتعزيز فهم أعمق لتجارب الحياة المتنوعة.
علاوة على ذلك، فإن قدرة مثل هذه الأفلام على التعامل مع مواضيع معقدة بطريقة مترابطة تجعلها أدوات قوية للتبادل الثقافي والخطاب الفلسفي العالمي. إذ تحث المشاهدين على التفكير في قيمهم والهياكل المجتمعية التي يعملون ضمنها.
إن السينما لا تخدم فقط كشكل سردي، بل باعتبارها بحثاً إنسانياً وفلسفياً عميقاً في النفس والعالم من حولنا. من خلال عدسة الأفلام العالمية، وخاصة الأفلام الإيرانية في رأيي، لاحظت كيف يمكن لوسيط الفيلم أن يكون بمثابة مرآة للواقع وتشكيل له؛ إذ تتحدانا هذه الأفلام لمواجهة تصوراتنا وإعادة النظر بشكل دائم، والنقض الدائم في عالمنا لمحاولة تقييمه، وربما الأهم من ذلك، التعاطف مع تجارب بعيدة كل البعد عن تجاربنا. ومن خلال القيام بذلك، تحقق السينما هدفها الأسمى: تسليط الضوء على حقيقة حالتنا الإنسانية المشتركة بكل تعقيداتها وتناقضاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.