كانت محاولة رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو الهروب من استمرار الفشل العسكري في غزة، بالفرار إلى الأمام، وأعطى الأمر بمهاجمة القنصلية الإيرانية في دمشق. وبعيداً عن ضربات الاحتلال المعتادة للحد من تدفق الأسلحة إلى حزب الله أو استهداف الجماعات المدعومة من إيران، فإن هذه الضربة كانت تهدف إلى القضاء على القيادة الإيرانية في سوريا.
وجاءت هذه الضربة بعد نصف عام من الحرب في غزة واستمرار فشل قوات الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافها، حيث يواجه جنود الاحتلال المجهزين بأحدث التقنيات والأسلحة الحديثة مقاومة فلسطينية باسلة وقوية. فعلى الرغم من الدمار الواسع والمعاناة الهائلة التي تسبب فيها همجية قوات الاحتلال، لا يزال مقاتلو المقاومة متحدين. ولم ينقلب سكان غزة ضدهم، ويبدو أن احتلال رفح لا معنى له. فالهجوم الإسرائيلي يتعثر والمعارضة لقيادة نتنياهو تتصاعد، بينما يزداد توتر رأي العالم تجاه إسرائيل، تحت قيادته، وتتعالى الأنظار إليها بشكل متزايد على أنها دولة منبوذة.
نتنياهو يطلق النار على قدمه
يعلم نتنياهو جيداً انه في مأزق لا يحسد عليه، لذلك حاول المناورة، فكان قراره بمهاجمة القنصلية الإيرانية في دمشق، وكان ذلك بمثابة مقامرة عالية المخاطر، تهدف إلى تحقيق أهداف متعددة في وقت واحد، لكنها فشلت وجاءت بارتدادات عكسية على الاحتلال وسمعته العسكرية.
بنيامين نتنياهو، في استراتيجيته المعتادة، يحاول دوماً تصوير إسرائيل كدولة تحت التهديد المستمر، من خلال تعزيز الأسطورة القائلة بأن الاحتلال أمة تناضل من أجل بقائها. وقد حاول أن يستدرج إيران ليتمكن من لعب ببطاقة الضحية، فعندما استهدف القنصلية الإيرانية، ليس فقط لإثارة التعاطف الدولي وحشد الدعم، بل أيضاً لتأكيد النزاع مع إيران، الخصم الذي يصوره دائماً كتهديد رئيسي يوشك على تدمير إسرائيل. هذه الضربة لم تكن مجرد إزالة لموقع دبلوماسي، بل كانت رسالة واضحة مفادها أن "نحن في حالة حرب، وإيران هي عدونا الأساسي".
وكان يأمل نتنياهو بهذه الضربة واستفزاز إيران لتوسيع الحرب وجرّ الولايات المتحدة إليها، آملاً أن يزيد التدخل الأمريكي من حدة المواجهات، ويحول المناوشات الإقليمية إلى مواجهة عالمية أكبر يجعلها الغرب حرباً مقدسة يدعم فيها إسرائيل لاستكمال مذابحه دون ضغط.
لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فطهران كانت تدرك مأزق نتنياهو ورغبته في الهروب إلى الأمام بتوسيع الحرب، فجاء الرد العسكري مباشراً ومحدوداً، مما أفشل طموحات نتنياهو، بل إني أرى أن تداعيات الرد الإيراني جاءت بالسلب على إسرائيل، إذ أظهرت للمنطقة والعالم أن الاحتلال على الرغم من قوته العسكرية، لا يستطيع أن يتصرف بشكل أحادي دون عواقب. بل أسطورته الأمنية التي انهارات يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نسفت مرة أخرى، إذ اتضح أن الاحتلال لا يمكن التخلي عن دعم الولايات المتحدة وبعض الأنظمة المطبّعة للحصول لحماية نفسه.
الصبر الاستراتيجي الإيراني
عندما ضربت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، لم يكُن رد فعل القيادة الإيرانية متهوراً. وبدلاً من ذلك، مارسوا الصبر الاستراتيجي، إذ استطاعت ايران إيصال رسالة لإسرائيل مفادها يمكننا أن نرد وبقوة، فنجحت طهران في كسر قواعد الاشتباك وتحافظ على معادلة ردع مهمة مع الاحتلال، وضربته ضربة مباشرة ودون عواقب فورية.
السبب في نجاح هذه الاستراتيجية يعود جزئياً إلى تأني ومراقبة إيران لرد فعل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي بقي صامتاً بشكل واضح. حيث فشل المجلس في إدانة الهجوم على القنصلية أرسل رسالة ضمنية بأن تصرفات إسرائيل لم تكن موضع إدانة عالمية، وأحاطت إيران علماً بهذه الفجوة الدبلوماسية.
كما أدركت إيران أن الدعم الدولي لضربة انتقامية ضد إسرائيل لن يكون لها دعم حتى من دول الجوار المتخوفة من التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، نصحت بضبط النفس. هذا الوعي بالوضع الدولي دفع إيران إلى اعتماد رد عسكري محسوب يتجنب التحول إلى صراع أوسع لا يرغب أحد في اندلاعه.
واستطاع رد إيران المحسوب تسليط الضوء على نقاط ضعف إسرائيل، أولاً، الاعتماد على الحلفاء: تعتمد إسرائيل، على الرغم من ما تدعيه عن قوة جيشها على حلفاء خارجيين. وتوفر الولايات المتحدة غطاء سياسياً حاسماً، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والتعاون العسكري. وأظهرت خطوة نتنياهو المتهورة هذا الاعتماد. وأصبح أن إسرائيل ليست ذلك البلطجي، الذي يفعل ما يحلو له وأن إسرائيل لا يمكن أن تتصرف من جانب واحد دون النظر في الآثار الجيوسياسية الأوسع.
ثانياً، المعضلة الاستراتيجية: واجهت إسرائيل معضلة. فكيف يمكنها الرد؟ إذ تم تقليص حرية إسرائيل في اختيار ردها وفقاً لواشنطن الذي تشير بعض المؤشرات إلى أنها لا تريد حرباً لا سيما أن الإدارة الحالية تنتظر انتخابات بعد حوالي 5 أشهر، إذ لا يمكن لإسرائيل التصرف باستقلالية كاملة وإشعال حرب إقليمية تجر فيها أمريكا دون عواقب محسوبة.
الآثار الأوسع
لقد أضرت تلك الضربة صورة الاحتلال بطريقة لا يمكن تعويضها، فرغم الرد الهزيل الذي قام به الاحتلال، فصورته كقوة عسكرية لا تقهر تخضع الآن للتدقيق. فتاريخياً، اعتمد الاحتلال أن يسوّق نفسه على أساس قوته العسكرية وتفوقه التكنولوجي ودعمه الثابت من الولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد ضرب الرد الإيراني هذه الواجهة مجدداً، بعد أن كانت قد دمرت من قبل المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
أدت الحرب الذي طال أمدها في غزة إلى إرهاق جنود الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من أسلحتها المتقدمة، فإن عدم قدرتها على هزيمة حماس بشكل حاسم يثير تساؤلات حول مدى فاعليتها كقوة استعمارية عسكرية. بينما يشهد العالم الآن مقاومة فلسطينية متمرسة في القتال ترفض الاستسلام.
لقد أدت تصرفات الاحتلال الإسرائيلي الهمجية والمتهورة إلى نفور العديد من شعوب العالم وبعض الدول. وتضاءل الدعم الذي كان قوياً ذات يوم من جانب الدول الأوروبية، وفي واقع الأمر، فإن ما تقوم به المقاومة الفلسطينية وما تكبِّده من خسائر للاحتلال استراتيجياً وسياسياً وعسكرياً دعوة للاستيقاظ – وتذكير بأن الضعف موجود حتى بالنسبة لأولئك الذين يبدو أنهم لا يقهرون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.