من الجلي أن حرب الإبادة التي تشن على غزة اليوم بكل شراسة لا تقتصر على غزة وحدها، بل تعنى بنزع الفلسطينيين من كامل فلسطين، فبينما تستمر المجازر في غزة، وينتهج الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية سياسات شديدة القمعية؛ حيث يقتل العديد من الفلسطينيين وينفذ عمليات تدمير واسعة لأحياء كاملة، بما في ذلك تحطيم البنية التحتية من مرافق عامة وطرق ومحطات للكهرباء والمياه والمستشفيات، إلى جانب تجريف الحقول والمزارع.. كل ذلك يهدف إلى إجبار الفلسطينيين على الهجرة من أوطانهم إلى الخارج، وبالأخص إلى الدول الإقليمية المجاورة.
كل هذه الممارسات جزء من سياسة ممنهجة لإنهاء القضية الفلسطينية ودفنها إلى الأبد. إنها سياسة توسع استيطاني تعلن بوضوح أنها لا تأبه بأي قوانين دولية، بل وبكل عنجهية لا تخجل إسرائيل من أن تتهم العالم كله بعدم التحضر إذا أدانتها المؤسسات الدولية، إذ تنتقد كل تصريحات وتحذيرات الأمم المتحدة والمحكمة الدولية بكل عنجهية استعمارية، وتستمر في همجيتها ضد الفلسطينيين متحدية العالم بكل قوانينه، بما فيها قرارات مجلس الأمن والإجماع الدولي الذي يؤكد على ضرورة إقامة دولة فلسطينية.
رأس الحربة في هذه السياسة هم أصحاب المصالح والنفوذ والسلطة، وكذلك تجار السلاح الأمريكيون وأصحاب رؤوس الأموال الكبار الذين يدفعون الجيوش لتنفيذ هذه الأجندات، مستعيدين تجربتهم في تأسيس الدولة الأمريكية على حساب السكان الأصليين، الهنود الحمر. يرى هؤلاء إسرائيل بنفس العين في الشرق الأوسط، لذلك لن يتوقفوا عن دعمها حتى لو أدى ذلك إلى إبادة شعوب بأكملها في المنطقة.
كما هو الحال مع المستعمرين التقليديين، فإن نجاحهم في تحقيق أهدافهم في فلسطين والسيطرة الكاملة عليها سيكون محفزاً لهم، مدعومين بغرور القوة الذي يغذي طموحاتهم التوسعية. سيكون هذا النجاح بمثابة بوابة لهم لتوسيع نطاق هيمنتهم إلى الشرق والغرب والجنوب، في مسعى طموح للسيطرة على المنطقة بأسرها واستغلال جميع مواردها الطبيعية بشكل كامل. هذا الطمع في السلطة والثروة ليس فقط تهديداً للاستقرار الإقليمي، بل هو استراتيجية توسعية تكشف عن الأطماع الإمبريالية التي تتجاهل حقوق الشعوب وسيادتها.
أوجه هذا التحذير للأفراد الذين لا يزالون يعقدون الآمال على الغرب ووعود العدالة الدولية الوهمية. لا حاجة للبحث في كتب التاريخ لفهم الوضع الحالي، فالنظر إلى السياسات الغربية اليوم ودعمها الكامل لإسرائيل وتشويه صورة أي حركة معارضة لها، حتى لو كانت مظاهرات طلابية داخل الدول الغربية نفسها، يكفي لفهم الواقع.
فيتو أمريكي ضد فلسطين
ومن لا يتابع الدول الغربية من الدخل وما يجري فيها، يمكنه متابعة الأخبار اليومية، وسيرى بعينه النفاق والخداع الأمريكي، فبينما تتهافت التصريحات الأمريكية بضرورة حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عقب كل مجزرة تقوم بها إسرائيل، تقوم باليد الأخرى أمريكا باستخدام حق الفيتو ضد مشروع توافق عليه الأغلبية العظمى في مجلس الأمن، مشروع كان يهدف لإعطاء الفلسطينيين مقعداً في الأمم المتحدة كامل العضوية.
من خلال متابعة بسيطة للأخبار اليومية يمكن أن يرى صاحب الضمير بوضوح النفاق والخداع الأمريكي. فبينما تصرح الولايات المتحدة بضرورة حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عقب كل مجزرة تقوم بها إسرائيل لتهدئة الرأي العالمي، تستخدم في الوقت ذاته حق الفيتو ضد مشروع قرار يهدف إلى منح الفلسطينيين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، رغم أنه مشروع حظي بتأييد الأغلبية العظمى في مجلس الأمن.
فهل تتصورون أن من اعترض على إعطاء الفلسطينيين مجرد العضوية الكاملة في الهيئة الدولية أن يعمل على حل مشكلة الشرق الأوسط بحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية بجانب دولة الاحتلال، وكما أوهموا الجميع بذلك؟!
إن ما تقوم به أمريكا ليس سوى جزء من الخداع الاستعماري المعتاد، فالإمبراطوريات الاستعمارية لطالما مارست المماطلة والتلاعب لسحق الشعوب المستعمرة. الحرية والاستقلال لا يستجديان من المستعمر؛ بل تُنتزع بالنضال والإصرار والتضحية.
إن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يحيدوا ولن يتفاوضوا على هيمنتهم وقمعهم للعالم، ولنا في الصين مثال، إذ نرى كيف أن الغرب ينظر لها وكيف يريد أن يسقطها؛ فقط لأنها تحاول أن تنافسه على مكانته بنفس قواعده التي وضعها، فنراها تضع القوانين وتمنع عنه التكنولوجيا؛ لذا أستعجب من دولنا العربية التي ترتمي في أحضان واشنطن ظناً منها أنه يمكن بناء تحالفات قد تفضي لنموها لتكون دولاً كبرى ذات شأن!
تظهر الحرب على غزة اليوم أكثر من أي وقت مضى للجميع بلا استثناء، أن الإمبراطورية الأمريكية لا تهتم إلا بمصالحها ونفوذها، وتسعى فقط لحماية إسرائيل التي تضمن لها إخضاع المنطقة ومواردها. لذا، يجب على دول المنطقة أن تستيقظ وتوسع خيالها السياسي لبدء كسر تلك الهيمنة الاستعمارية.
واقع الحرب الأليم في غزة اليوم جرس إنذار لدول المنطقة للتحرك نحو التحرير الحقيقي، ليس لفلسطين فقط بل للمنطقة بأكملها. فيجب أن يستيقظ العرب من سباتهم وهذا السلام الواهم؛ فالخداع والمراوغة هما سيدا الموقف، وما زالت دماء الآلاف تُراق في العراق وسوريا ولبنان ومصر وليبيا والسودان واليمن، وإن لم نفق فلن تكون هذه آخر دمائنا التي ستنزف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.