تمر المواجهات العسكرية بين إسرائيل وإيران بتحول جذري، إذ تتحول المواجهات السرية والعمليات التي كانت تجري في الظل والمناطق الرمادية إلى مواجهات مباشرة وكلاسيكية، مما يضفي طبقة جديدة من التعقيد على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
لا حروب ظل بعد اليوم
رمت إيران باستراتيجية الصبر الاستراتيجي عرض الحائط، وذلك لأن هذه الاستراتيجية جعلت الإسرائيليين وقحين ومتوهمين. ولذلك فقد جاء ردها على استهداف القنصلية الإيرانية حاسماً حيث استخدمت 360 صاروخاً وطائرة مسيرة لاستهداف الأراضي المحتلة بشكل مباشر. وكانت أهداف صواريخ الحرس الثوري والجيش الإيراني هي قواعد الجيش الإسرائيلي وأهمها القاعدة الجوية في النقب جنوب الأراضي المحتلة. وتعتبر قاعدة "نوفاتيم" الجوية إحدى القواعد المهمة لإسرائيل، حيث تستخدمها في العدوان على غزة وتدمير القطاع حسب استراتيجية الأرض المحروقة، وهي نفس القاعدة التي انطلقت منها الطائرات الإسرائيلية التي ضربت القنصلية الإيرانية في دمشق. وأكدت القناة 12 الإسرائيلية أن 7 صواريخ أصابت هذه القاعدة الجوية المهمة. وتقع قاعدة نوفاتيم الجوية، والمعروفة أيضاً باسم قاعدة سلاح الجو الثامن والعشرين للنظام الإسرائيلي، في جنوب الأراضي المحتلة بين بئر السبع وعراد.
إن الادعاء بأنّ الهجوم الإيراني على إسرائيل هو مسرحية يمنعنا من تحليل هذا الحدث الهام للغاية، والذي سيكون له تداعيات هامة في الشرق الأوسط. لم يكن للهجوم الإيراني أثر عسكري وحسب، بل أظهر هذا الهجوم الفشل الاستراتيجي الذي تمر به إسرائيل. هذا الفشل الذي يتكرر للمرة الثانية على التوالي بعد انتصار طوفان الأقصى.
إسرائيل عاجزة عن حماية نفسها
في الحقيقة أظهر الهجوم الإيراني عجز إسرائيل عن حماية نفسها. منذ بداية الحرب على غزة أدركت الدول الغربية وأدركت إسرائيل نفسها أنّه لولا الدعم الغربي لما استطاعت إسرائيل أن تقف أمام المقاومة الفلسطينية في غزة ليوم واحد. ولذلك فرأينا كيف قامت كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية بالمشاركة في تحييد الأسلحة والصواريخ الإيرانية قبل وصولها إلى إسرائيل.
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة، لم تقف الدول الغربية إلى جانب إسرائيل فحسب، بل قدمت لها الدعم غير المشروط، مما مكنها من مواصلة العمليات العسكرية على هذا النحو من التوحش والتدمير الممنهج. ويسلط هذا التحالف الثابت الضوء على سرد جيوسياسي أكبر؛ حيث تتشابك المصالح الغربية بعمق مع قرارات إسرائيل الأمنية والسياسية. ويستمر الدعم الثابت من هذه البلدان بغض النظر عن الطبيعة الديناميكية والمتقلبة للوضع في كثير من الأحيان، مما يسلط الضوء على الالتزام الذي يبدو أنه لا يتزعزع بسبب مد وجزر الصراع الإقليمي؛ بل هو ينبع من إدراك بأنّ إسرائيل هي صنيعة الغرب، ولن تصمد دون دعم الغرب.
تواطؤ بحسب القانون الدولي
إذا ما أردنا أن نضرب أمثلة على الدعم العسكري لإسرائيل يمكننا القول إنّ ألمانيا على سبيل المثال تجد نفسها متورطة وشريكة في قتل جماعي للشعب الفلسطيني في غزة؛ حيث رفعت نيكاراغوا دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية ضد ألمانيا تتهمها بالمشاركة والتواطؤ في الإبادة الجماعية ضد سكان غزة من خلال الاستمرار في تزويد إسرائيل بالأسلحة، وذلك طبقاً لمعاهدة منع الإبادة الجماعية، وكذلك وفقاً لمواد المسؤولية الدولية عن الأفعال التي تنتهك القانون الدولي. وعلى الرغم من خطورة هذه الاتهامات والتدقيق الدولي الذي جلبته، ظلت ألمانيا ثابتة في دعمها لإسرائيل، وتواصل إمدادها بشحنات الأسلحة. لا يثير هذا السيناريو تساؤلات عميقة حول القانون الدولي والالتزامات الأخلاقية فحسب، بل أيضاً حول عمق التزام ألمانيا تجاه إسرائيل، مما يشير إلى إعطاء الأولوية لدعم إسرائيل في جرائمها على الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية.
علاوة على ذلك، واصلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دعمهما السياسي والعسكري لإسرائيل، على الرغم من الدعوات السياسية وأصوات المجتمع المدني التي طالبت بوقف الدعم عقب اغتيال متطوعين في مطبخ المساعدات الدولية في غزة. وهذا الحادث، الذي أثار غضباً دولياً، لم يردع هذه الدول عن مسارها. ويشير الدعم المستمر من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى أنّ إسرائيل لديها شيك على بياض للاستمرار في جرائمها بحق الشعب الفلسطيني.
ليس الغرب وحده من يدعم إسرائيل
في شبكة العلاقات الدولية المعقدة، تبرز كذلك العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية والإسلامية. ففي ليلة السبت، حيث أشرقت سماء الشرق الأوسط بمئات الطائرات بدون طيار والصواريخ الإيرانية ضد إسرائيل، وحيث هدأت سماء غزة للمرة الأولى منذ سبعة أشهر، نفذت واشنطن حلمها بتشكيل منظومة دفاع جوي إقليمية لحماية أمن إسرائيل، وتضمنت هذه الشبكة رادارات ومقاتلات نفاثة وسفناً حربية وبطاريات دفاع جوي من إسرائيل والولايات المتحدة وست دول أخرى بينها دول عربية وازنة. كان هذا النشر الهائل للقدرات الدفاعية الجماعية بمثابة لحظة مهمة من حيث تحقيق هدف أمريكا الطويل الأمد المتمثل في تعزيز التعاون العسكري الوثيق بين إسرائيل وجيرانها العرب، وكل ذلك يصب طبعاً في مصلحة إسرائيل وضد الشعب الفلسطيني.
وقد تم تعزيز فعالية هذا الدفاع بشكل كبير من خلال مساهمات الدول العربية، التي قدمت معلومات استخباراتية مهمة حول خطط هجوم طهران.
هذه الدول فتحت مجالها الجوي أمام الطائرات الحربية الغربية في مواجهة هجوم إيراني على إسرائيل، وتبادلت معلومات التتبع الراداري، وفي بعض الحالات، ساهمت بشكل مباشر بموارد عسكرية في الجهود الدفاعية وإسقاط الصواريخ الإيرانية.
إذا ما نظرنا إلى الصورة بشكل أوسع، سنجد العلاقات الأذربيجانية-الإسرائيلية المثيرة للجدل إلى حد كبير. ومن التطورات الأخيرة التي تؤكد مدى تعقيد هذه العلاقات، الزيارة التي قام بها نشطاء من الجاليات اليهودية المقيمة في أمريكا وإسرائيل إلى مناطق في كاراباخ. يمثل هذا الحدث فصلاً جديراً بالملاحظة في العلاقات المتطورة بين إسرائيل وأذربيجان، وهي دولة ذات أغلبية مسلمة يبلغ عدد مسلميها أكثر من 93% من مجموع السكان. ويسلط هذا التعاون، غير المسبوق والمحفوف بالعواقب الجيوسياسية، الضوء على الخروج عن الإجماع الإسلامي بدعم القضية الفلسطينية وشعب غزة الذي يعاني من القتل والتدمير والتشريد والحصار.
منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، تصاعدت المشاعر العالمية ضد إسرائيل، خاصة في الدول العربية والإسلامية التي تدعم القضية الفلسطينية بقوة. وعلى الرغم من هذه الخلفية، يبدو موقف أذربيجان متبايناً بشكل غير متوقع عن موقف جيرانها الذين يشكلون أغلبية مسلمة.
يمكن أن يُعزى موقع أذربيجان الفريد في هذا اللغز الجيوسياسي إلى ارتباطاتها الثنائية الكبيرة مع إسرائيل. ومن اللافت للنظر أن أذربيجان توفر حوالي 40% من احتياجات إسرائيل من النفط، وهو شريان حياة اقتصادي بالغ الأهمية.
ختاماً، انتهت المرحلة الأولى من الرد الإيراني على إسرائيل؛ حيث فرض هذا الرد قواعد اشتباك جديدة ودفع حرب الظل إلى الظهور إلى العلن، بالإضافة إلى تحقيق أهداف غير عسكرية. كما أظهر الهجوم الإيراني ومن قبله هجوم حركات المقاومة في غزة وفي جنوب لبنان والعراق وسوريا حقيقة أن إسرائيل عاجزة عن حماية نفسها دون دعم غربي وغير غربي يشمل المجالات السياسية والعسكرية واللوجستية والاقتصادية وإمدادات النفط وتوريد الأسلحة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.