الإمام الحبر اللامع، فقيه الأمة اليقظ، الرباني العابد، الأوّاه الأوّاب، أبو عبد الرحمن الهذلي، المكي المهاجري البدري، حليف بني زهرة، من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، صاحب سر رسول الله ﷺ، وسواكه، وسواده، ونعله، وطهوره، شهد بدراً، وهاجر الهجرتين، وكان يوم اليرموك على النفل، مناقبه غزيرة، روى علماً كثيراً، وهو ممن أدركوا القبلتين، وأول من جهر بقراءة القرآن في مكة، وكان من أبرز المفسرين، وهو الذي أسّس مدرسة الكوفة العلمية، فهو دقيق الفهم، زخم العطاء، ومن مكثري الحديث، وكان معلماً، فقيهاً متيناً، متحفظاً قاضياً، وقد تولى قضاء الكوفة وبيت مالها في خلافة عمر وصدر من خلافة عثمان، الإمام عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه).
اسمه ونسبه وكنيته ولقبه
هو عبد الله بن مسعود، بن غافل بن حبيب، وكان يكنى بأبي عبد الرحمن، كناه بذلك رسول الله ﷺ كما ذكر علقمة عن عبد الله قال: كناني النبي ﷺ، أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي، وأما لقبه: فكان يعرف بأمه، فيقال له: ابن أم عبد.
العالم المحدث والمفسر المجتهد والفقيه المعلم
أسلم عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) وهو فتى حدث، وكان صافي السريرة، متوقد الذهن، مجداً مجتهداً، ذكياً ألمعياً، ولفت نظره أول سورة نزلت وهي قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) إلى تتمة الآية، ولاحظ في هذه الآيات وأدرك بفطنته النادرة أن من أكبر أهداف هذا الدين العلم، بل هو أحد أركانه ودعائمه.
ملازمته للنبي وأخذه القرآن عنه
أخذ عبد الله (رضي الله عنه) نفسه بالعزيمة، وحملها على ملازمة رسول الله ﷺ فحفظ القرآن عنه، وأخذ الحديث منه، وازداد بذلك شغفاً، وعليه إقبالاً، وقد أخذ يكثر عبد الله من ملازمة النبي ﷺ في حِلّه وترحاله، بعد أن أذن له الدخول عليه، وكان سروره عظيماً، وركز جل اهتمامه على حفظ القرآن، وأخذه عن رسول الله، دونما واسطة، ولم يكتف بالحفظ عنه بل كان يقرأ عليه، ليتأكد من صحة حفظه، وإذا أخطأ ردّه النبي إلى الصواب، وبقي ملازماً له حتى أخذ عنه معظم سور القرآن مشافهة، وكان النبي ﷺ يطلب منه أن يقرأ عليه القرآن.
أخذه للحديث
كان عبد الله (رضي الله عنه) مع اهتمامه الكبير بالقرآن الكريم، وإعطائه الأولوية في الاهتمام، كان متيقظاً إلى معين آخر من فم النبي ﷺ الذي لا ينطق إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً؛ لذا كان يملأ الوقت إما بأخذ القرآن، وإن لم يكن ذلك فبالحديث الشريف، فكان يسأل النبي ﷺ عن الحلال والحرام، وعن الأوامر والنواهي، وعن فضائل الأعمال وكبائر الذنوب، وعن فروع الإسلام وأصوله، ويودع كل ذلك في قلب يقظ فطن، فهو تارة يسأل عن الفضائل وجميل الخصال، فيقول: "سألت رسول الله ﷺ قلت يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة على ميقاتها)، قلت ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين)، قلت: ثم أي قال: (الجهاد في سبيل الله)، فسكت عن رسول الله ﷺ: ولو استزدته لزادني".
ونتيجة لتلك الصحبة الطويلة والشهود المستمر للجلسات النبوية، تحصّل لدى ابن مسعود علم غزير وذخيرة كبيرة، دعت النبي ﷺ أن يتعجب ذات مرة من عبد الله، كيف يتساءل عن أحد الأمور، وكان رضي الله عنه يحدث ويدعم حديثه بآية من القرآن العظيم، ويتحرى في تحديث الناس خشية أن يزيد حرفاً لم يقله النبي ﷺ لدرجة أنه إذا حدث أناساً في وقت، ثم عادوا إليه وسألوه عنه بعد مدة، فإنه يحدث به كما هو، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وكانت الأحاديث التي رواها (رضي الله عنه) تشمل جوانب الإسلام، وتحيط بكلياته.
جمعه للقرآن كله عالماً بنزوله
لقد كان ثمرة تلك الصحبة الطويلة للنبي ﷺ وذلك التلقين المباشر من فيه إلى في عبد الله، أن تحصل لديه معظم سور القرآن مشافهة، ودونما واسطة، ولقد أوضح ذلك لتلامذته، معترفاً بفضل الله عليه، وهذا ما ينقله تلميذه شقيق بن سلمة، قال: (خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: (والله لقد أخذت من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي ﷺ أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم)، قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت راداً يقول غير ذلك، ونظراً لتلك المكانة التي بلغها امتدحه النبي ﷺ في غير ما موقف، وأرشد الصحابة فمن بعدهم إلى ما عنده فقال: (خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم معبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم بن مولى أبي حنيفة).
المفسر الملهم
ابن مسعود (رضي الله عنه) من كبار مفسري الصحابة وأعيانهم، وإن معاصرة ابن مسعود لنزول القرآن، كان يضيف أبعاداً هامة، ودعماً لآرائه ونظراته وفلج حجته، يقول رضي الله عنه (والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما نزلت، ولو أعلم أحداً هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه، لركبت الإبل إليه)، وكانت منابع التفسير عنده من مجمل ما سمعه من النبي ﷺ، والربط بين الآيات وما فهمه من خلال الأحاديث النبوية، وما استنبطه من الوقائع والأحداث، والمشاهد والأشخاص التي تنزلت فيها آيات قرآنية، وما يمكن فهمه باللغة، وما أملته عليه روحه من فهم، وكان تفسيره متشعب النواحي، متعدد الاتجاهات، واسع الأفق، زخم العطاء، مع دقته في الاستنباط والنظر، وقوة في الحجة، وإبداع وروعة في الأداء، مستعملاً الترغيب والترهيب.
المعلم الفذ
سمع ابن مسعود (رضي الله عنه) حديثاً عظيماً من النبي ﷺ يرغب فيه بنشر العلم، ويمدح فاعله ويعده بالثواب الجزيل، مما ألهب في نفسه شعوره الكامن، بتحصيل الخير من هذا الجانب، وأخرجه إلى عالم الشهادة، ويحدثنا بما وعى فيقول: (سمعت رسول الله ﷺ، يقول: إن نضر الله أمراً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع).
وكذا فإنه (رضي الله عنه) أخذ يرغب الناس في العلم، واغتنام وجود العلماء قبل أن يفوتهم ذلك، وله في ذلك أقوال رائعة، من ذلك قوله: (اغدُ عالماً أو متعلماً، ولا تغد فيما بين ذلك، فإنما بين ذلك جاهل أو جهل، وإن الملائكة لتبسط أجنحتها لرجل غدا يطلب العلم من الرضى لما يصنع)، ويقول (رضي الله عنه): (عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته، فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء، لما يرون من كرامتهم، فإن أحداً لم يولد عالماً وإنما العلم بالتعلم).
وكان (رضي الله عنه) معلماً لبيباً، ذكياً فطيناً ألمعياً، يلقي الدروس الجامعة، ويخطب بتلامذته، ويجالسهم فيفسر لهم الغامض، ويبين لهم المجمل، ويحمل الناس على فهم القرآن والعمل به وتلاوته وحفظه، ويعلمهم إتقانه، ويرغبهم ويرهبهم، ليقفوا عند تحذيراته ويحركوا القلوب بكلماته، ويتفاعلوا مع إنذاراته، ويطوعوا لها النفوس، بأسلوب بديع وكلمات مؤثرة، ويعلمهم الصلاة وأداء الفرائض، والسعي إلى المسجد، في صور عملية، ويحثهم على الحج والعمرة، وكانت الغاية هي أن ينطلق بهم من حيز العلم إلى ميدان العمل، ومن نطاق الكلام إلى جادة الالتزام، وترك ما حرم وما استقبح، وكان يؤدب تلامذته بآداب الإسلام، ويضع الصورة الحية التي تمثله بينهم، ويحثهم على تعظيم الحديث وعدم معارضته، وهو ينشر فضائل النبي بينهم، ويحملهم على اقتفاء أثره، والنسج على منواله، والاقتداء به، وكان رضي الله عنه يتكلم ويحدث ويوجه ويرشد ويتلقى ويجيب، بسهولة ويسر، وعلم وفهم، فيصحح الأخطاء، ويقوّم الاعوجاج، إلى أن بلغ مبلغاً قوياً في العلم، وبات وزيراً للكوفة، وفقيهها الأكبر، يعلم أهلها ويقضي بينهم، ويحل خصوماتهم.
وفاته
مرض الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، وعاده الصحابة والتابعون، وعلى رأسهم الخليفة، وهو على فراش الموت ما شكى من المرض إلا ذنوبه، وما اشتهى لحظتها إلا رحمة ربه، فتوفي ابن مسعود (رضي الله عنه) ودفن في البقيع، وذلك عام اثنين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين للهجرة، بعد أن قضى عمراً مباركاً ساهم فيه بالعلم الغزير والفقه الواضح والقراءة الغضة، تتغنى بسيرته الأجيال إلى يوم الدين، وتقتدي أثره بالقرآن، كما بنى للدين صرحاً متيناً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.