قد يكون أوناي إيمري من أغرب الحالات التي مرت على لعبة كرة القدم أجمع؛ هذا لأن الرجل الإسباني، الذي تعاقب على الكثير من الأندية الإسبانية، وخارج الإسبانية كذلك، لم ينَل بعد ما يستحقه من ثناء وتقدير!
المدرب، الذي كان لاعباً في صفوف ريال سوسيداد، والذي لم ينَل أي لقب في مسيرته كلاعب، اكتشف نفسه بطريقة مُغايرة تماماً حين تقلد مقاليد المدرب العام للأندية التي وثقت به.
لم يكن أوناي إيمري من الأسماء المشهورة، لكنه وجد بحنكته، طريقة لإدراج اسمه بين أكبر الأسماء التدريبية، ليس فقط داخل الأراضي الإسبانية، وإنما في كل مكان داخل قارة أوروبا.
بدأت الرحلة بالقيادة الفنية لصالح فريق لوركا، أحد الفرق التي لا تشتهر بأي شيء في إسبانيا، حين كان إيمري لاعباً في صفوف الفريق، وتعرض لإصابة قوية في الركبة؛ أدت بالضرورة لتركه كرة القدم كلاعب و أعلن اعتزاله بشكل صادم!
لكن رئيس نادي لوركا، قرر أن يُجازف المجازفة الأهم في تاريخ نادي لوركا، حين أسدى مهمة قيادة الفريق فنياً لنفس اللاعب المُعتزل أوناي إيمري، والذي أصبح قائداً على الخط لنفس الزملاء الذين كان واحداً منهم قبل مدة قليلة داخل ميدان كرة القدم!
لم يكن طموح لوركا بالغاً، ولم يكن يرغب في إزعاج أحد، لكن أوناي إيمري قرر أن يُخاطر، ويسوق أحلام لوركا إلى أبعد مما يحلم به، واستطاع إيمري، المدرب، أن يصعد بفريق لوركا من الدرجة الثالثة إلى الثانية في أكبر إنجاز حققه الفريق حينها وللمرة الأولى في تاريخه، الحديث والقديم كذلك!
لم يصعد لوركا أبداً إلى منافسات الليجا الإسبانية؛ فهذا الحلم يبدو بعيد المنال على الفريق الذي لا يزيد عمره عن عقدين من الزمان، والذي تسلم إيمري مهامه في مهده فعلياً.
استطاع أوناي إيمري أن يقود النادي المستحدث على اللعبة، إلى الوصول إلى منافسات الدرجة الثانية، ثم حاولوا كثيراً أن يصلوا إلى منافسات بطولة الليجا الإسبانية، لكن، في كل مرة، كان لوركا يجد صعوبة في تحقيق هذا الحلم؛ بالنظر لإمكانيات النادي وكذلك موارده!
كان لوركا على بُعد خمس نقاط فحسب، من الصعود إلى بطولة الدوري الإسباني الليجا في موسمهم الأول في الدرجة الثانية، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، وبعد رحيل أوناي إيمري عن لوركا، ابتعد الفريق تماماً عن الدرجة الثانية، وهبط بالتدريج إلى الدرجات الأدنى.
أوناي إيمري.. مدرب ينتزع الأندية من الهاوية إلى القمة
هذا الطموح لم يتوقف، عند اللاعب المُعتزل حديثاً والمُدرب الصغير، الذي انتقل إلى فريق ألميريا، واستطاع بهذا الفريق أن يصعد، للمرة الأولى في تاريخ ألميريا، إلى الليجا الإسبانية في عام 2008، وتمكن من إنهاء الموسم في المركز الثامن في بطولة لم يكن ألميريا فيها إلا الحصان الأسود!
بعد ألميريا، ومن قبله لوركا، بعد الرهانات الكبيرة التي اكتسبها أوناي إيمري لنفسه، كان خُفاش نادي فالنسيا يُسافر بحثاً عن بديل للهولندي المُقال رونالد كومان، ولم تجد إدارة فالنسيا أجدر من إيمري لقيادة خفافيش المستايا، رغم تخبط مستواهم وأزماتهم المالية في ذلك الوقت.
في الموسم الأول رفقة فالنسيا، أنهى إيمري الموسم في المركز السادس في ترتيب الليجا، واستطاع أن يتأهل بذلك إلى بطولة الدوري الأوروبي اليوروباليج، التي غادرها في نهاية المطاف عن طريق الأهداف المُسجلة خارج الديار، والتي كانت قاعدة يُعمل بها حينها.
في الموسم الثاني، وصل فالنسيا إلى المركز الثالث في ترتيب بطولة الدوري الإسباني الليجا، وأدى ذلك إلى تأهله بشكل رسمي إلى بطولة دوري أبطال أوروبا، البطولة التي لم يكن فالنسيا يستطيع التواجد فيها بسبب أزماته المتتالية، واختياراته الفنية الخاطئة، وتمكن إيمري أن يهبط مع فريقه إلى الدوري الأوروبي، لكنه خرج من أتلتيكو مدريد، الذي كان بطل المسابقة في نفس النسخة، وكذلك ودع إيمري رفقة فالنسيا المسابقة عن طريق الأهداف المُسجلة خارج الديار!
في موسمه الثالث، شارك فالنسيا في بطولة دوري أبطال أوروبا، وغادرها من الدور ثمن النهائي، وأنهى فالنسيا مسابقة الدوري الإسباني الليجا في المركز الثالث، وفي موسمه الرابع كان ثالثاً كذلك في بطولة الدوري الإسباني الليجا، كما غادر مسابقة الدوري الأوروبي اليوروباليج من نصف النهائي، من جديد، على يد أتلتيكو مدريد.
كل هذه النجاحات، رغم المعوقات، سواء في لوركا، ألميريا أو فالنسيا، كانت تمهيداً حقيقياً للنجاح الأكبر والأعظم بالنسبة لإيمري؛ الرجل الذي حقق لقب الدوري الأوروبي اليوروباليج، البطولة التي استعصت عليه، عن طريق تحقيق البطولة ثلاث مرات متتالية رفقة إشبيلية، أمام بنفيكا البرتغالي، ثم دينيبرو الأوكراني، ثم ليفربول الإنجليزي على الترتيب.
كان إشبيلية بحاجة إلى هذا المُبتكر، الإسباني الذي اخترع ثقافة اليوروباليج في الأندلس، الرجل الذي جعل إشبيلية يتربع على عرش البطولة الثانية في القارة، والذي صنع منه وحشاً لا يمكن مجاراته، لا بالمنطق، ولا بغير المنطق!
حقق إشبيلية مع أوناي إيمري ثلاثة ألقاب من أصل سبعة ألقاب في بطولة الدوري الأوروبي اليوروباليج في تاريخه؛ وهو ما يؤكد كيف كان إشبيلية قبله، وكيف أصبح بعده.
وهُنا، كان على إيمري أن يختار التجارب الكُبرى، بعد أن ظل لسنوات في رداء البساطة، حين ذهب نحو باريس سان جيرمان، وما أدراك ما باريس سان جيرمان!
الفريق الذي كان يبحث في أوناي إيمري عن المدرب الذي يُحقق له لقبه الأول في بطولة دوري أبطال أوروبا، لكن إيمري صُدم مما حدث له في باريس، بعد أن قدم واحدة من أفضل المباريات في تاريخ ناديه الفرنسي أمام برشلونة، حين انتصر في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا عام 2017 برباعية في فرنسا.
كان إيمري ينتظر الخسارة التاريخية، والريمونتادا التي محت كل ما فعله، غادر إيمري مسابقة دوري أبطال أوروبا بطريقة درامية، ولم يتوقعها أشد كارهيه، لكنه غادرها، وهو ما تكرر له في العام التالي، بالخسارة ذهاباً وإياباً أمام ريال مدريد في الدور نفسه، ومن هذا المنطلق قررت إدارة باريس سان جيرمان أن تستغني عنه، رغم النجاحات المحلية التي حققها، والتي رأتها الإدارة عادية بالنظر لسيطرة الفريق محلياً من الأساس.
حاول إيمري رفقة أرسنال، وكان عليه أن يمنح جماهير النادي اللندني ما ينتظرونه في بطولة إيمري المفضلة، وهو ما حدث لهم فعلاً، بعد إقصاء رين ثم نابولي ثم فالنسيا على الترتيب، كان تشيلسي هو الحجر الذي لم يستطِع أرسنال إزاحته لاقتناص اللقب، وبرباعية، ترك إيمري حلمه الكبير مع إشبيلية عند بوابة أرسنال، الذي لم يُوافق على استمرار الإسباني بعد الهزيمة القاسية في نهائي الدوري الأوروبي أمام الجار اللندني الأزرق تشيلسي!
لم يبكِ أوناي إيمري حظه، وأدرك أنه لكل حادث حديث، وحين خرج من أرسنال، لم يكن ينتظر إلا عرضاً من إسبانيا، بلده، وموطنه، الذي نجح فيه، والذي لن ينجح في غيره، والمكان الذي استقبله ووثق به، حين خدعه الجميع وقللوا من شأنه.
لم يكن إيمري يعنى بالماضي، حيث وافق على عرض فياريال، الغريم اللدود لفالنسيا في المدينة، فالنسيا الذي قاده إيمري لكل النجاحات المذكورة في الأعلى، وكان إيمري يعرف أن التجربة ستُمثل ضغطاً شديداً عليه بهدف إظهار ما يمتلكه حقاً.
في فياريال، كما لو كان الحظ لا يقف مع إيمري إلا بالزي الإسباني، والفريق الأصفر، الذي بحث عن أي لقب طوال تاريخه الذي يمتد لأكثر من مئة عام كاملة!
لم يجنِ فياريال هذا اللقب، الأغلى والأثمن، إلا بقيادة إيمري، في نهائي تاريخي حقق فيه فريق الغواصات لقب الدوري الأوروبي في عام 2021 أمام نادي مانشستر يونايتد، في بطولة كانت تُمثل كل شيء، للفريق الأصفر الذي لن يُحقق أغلى منها، وربما لن يسعى لتحقيق أي شيء آخر بعدها.
إيمري، الرجل الذي خرج من إنجلترا مكسوراً، عاد إليها رافعاً رأسه، بتجربة جديدة؛ فالرجل لا يعترف إلا بالتجربة، ولا يحكم على نفسه بالتجارب السابقة، ولا يدعها تتحكم به.
عاد أوناي إيمري من حيث خرج، من بوابة أستون فيلا، الفريق الذي كان يُعاني الأمرّين من أجل البقاء في بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز البريميرليج، واستطاع إيمري أن يخترع لهم تلك الوصفة، التي لم تنقذهم من الهبوط؛ وإنما أعادتهم للمنافسة!
هذا إيمري، الرجل الذي يحتاج إلى التقدير فحسب، الرجل الذي عاد بأستون فيلا من شبح الهبوط، إلى مصاف المنافسة، الرجل الذي أدخل أستون فيلا مسابقة دوري المؤتمرات الأوروبية هذا الموسم بعد أن وصل إلى الفريق والهدف، كل الهدف، أن يبقى أستون فيلا في بطولة الدوري!
الرجل الذي فاز على أرسنال ذهاباً وإياباً، وانتصر على مانشستر سيتي، ويقترب من نصف نهائي الدوري الأوروبي للمؤتمرات، وقد يكون الأوفر حظاً لتحقيق البطولة، بطل دوري أبطال أوروبا عام 1982، يحلم حالياً بالعودة للأمجاد الأوروبية، لكن من أحدث وأصغر بوابة اخترعها الاتحاد الأوروبي لكرة القدم؛ بوابة دوري المؤتمرات الأوروبية، التي ستكون بطولة جديدة تُضاف لبطولات الظل التي يتمتع به إيمري، وستُعيد لأستون فيلا تاريخاً لم يكن يحلم بتحقيقه إلا في تواجد الإسباني على خط القيادة.
يقف إيمري حالياً عند الترتيب الرابع في بطولة الدوري الإنجليزي، بعد أن منح بيب غوارديولا فرصة اقتناص الدوري من جديد، بعد أن أحرج بيب نفسه هذا الموسم، وكذلك ميكيل أرتيتا!
أوناي إيمري؛ الرجل الإسباني الذي تبدو مسيرته رائعة في سردها، وعظيمة في تذكرها، لكنه لم ينَل بعد التقدير الذي يليق به، الرجل الذي يُشبه أحد أبطال سلسلة أفلام مصاص الدماء "دراكولا" لا يأتي عليه الليل إلا وأحلامه حاضرة أمامه، وأنيابه تتجهز لافتراسها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.