الأموال وحدها لا تكفي.. كيف صنع غوارديولا هوية البطل لمانشستر سيتي؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/14 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/14 الساعة 09:50 بتوقيت غرينتش
مانشستر سيتي (رويترز)

مشكلة بيب غوارديولا الأزلية؛ أنه حُصر في مساحة المُستثمر، والمحظوظ، الرجل الذي تذللت له كل العقبات، والذي حصل على كل شيء طواعيةً!

خرج الرجل من نادي برشلونة، بعد أن أنقذه من منعطف تاريخي، كان الفريق قبله قد تعثر في نصف مباريات الليغا في موسم 2007-2008، وحقق بالعناصر نفسها تقريباً، بطولة الدوري الإسباني، وكأس الملك، وبطولة كأس السوبر، وكأس السوبر الأوروبي، ودوري أبطال أوروبا، إضافة إلى بطولة كأس العالم للأندية.

ظهر غوارديولا من العدم، برهان كامل من يوهان كرويف الذي أوقف مُخطط برشلونة لإيصال مورينهو إلى النادي، كما أُشيع في تلك الفترة، وحقق غوارديولا للفريق بطولتين من أصل خمس بطولات تاريخية له في مسابقة دوري أبطال أوروبا.

واكتشف النادي الذي كان على مقربة من الهاوية، أو كان فيها فعلياً، وترك للنادي إرثاً كبيراً، وأسلوباً يستطيع به أن يُسيطر على أية مباراة متى التجأ إلى هذا الأسلوب.

وفي الوقت نفسه، لم يُحاول الرجل أن ينسب كل هذا النجاح إلى عبقريته وأسلوبه، وإن فعل فإنه سيكون مُحقاً، لكنه قال إنه حاول جعل ميسي أفضل لاعب في العالم فجعله الأرجنتيني المدربَ الأفضل في العالم!

وقال، بعد أن أجاب عن السؤال الذي تكرر لسنوات، في الأوساط الرياضية الرسمية وغير الرسمية، إنه كان محظوظاً بالطبع بوجود ميسي، وتشافي وإنييستا، تحت إمرته، والثلاثي منحه النجاح الذي لم يحلم به في السابق!

تسلّم بيب غوارديولا زمام القيادة الفنية في فريق مانشستر سيتي، وتحول حينها إلى الشخص المحظوظ، لكن هذه المرة لم يكن الحظ حظ امتلاك اللاعبين فحسب؛ بل حظ توافر المخزون المادي المهول الذي يسمح له بشراء وبيع أي لاعب يريده، متى أراد ذلك.

ذهب بيب غوارديولا إلى إنجلترا، وتحديداً في الفئة الزرقاء من مدينة مانشستر، ليخلف التشيلي مانويل بيلجريني، ومن قبله الإيطالي روبيرتو مانشيني، في تدريب فريق استطاع محلياً أن يدخل مساحة الفوز ببطولة الدوري الإنجليزي الممتاز.

بيب غوارديولا (رويترز)


مانشيني؛ الرجل الذي حقق لمانشستر سيتي لقب بطولة الدوري الإنجليزي للمرة الثالثة في تاريخه، بعد الصراع التاريخي مع مانشستر يونايتد في الموسم نفسه، ولولا هدف سيرجيو أجويرو، ما كان لمانشيني أن ينال شرف التتويج التاريخي الذي فك عُقدة استمرت قُرابة 43 سنة دون تتويج بالدوري!

حقق مانشيني بطولة كأس إنجلترا، بعد غياب للمدة نفسها التي غابت فيها درع الدوري عن خزائن النادي، وترك المنشفة، بعد أن تمت إقالته في الموسم التالي لكل هذه الإنجازات؛ لأنه لم يستطع تقديم العطاء نفسه، ولم يُقدم نفسه في بطولة دوري أبطال أوروبا التي وصل إليها مانشستر سيتي بعد عناء، وغادرها في دور المجموعات، من أصعب مجموعاتها: ريال مدريد، ومانشستر سيتي، وبروسيا دورتموند، وأياكس أمستردام.

أتى التشيلي بيلجريني، الرجل الذي كانت التطلعات عالية عليه، والتوقعات تصب دائماً في صالحه، بأن يتسلم هذا الإرث الذي خلفّه المُقال مانشيني.

نجح بيلجريني في حصد لقب بطولة الدوري الإنجليزي، وظل عامين يُحاول أن يفك شيفرة بطولة دوري أبطال أوروبا، الحلم الأكبر بالنسبة لمجموعة سيتي غروب وإدارة النادي الإماراتية التي رأت أن النجاح المحلي لا بد من أن يُوازيه النجاح القاري.

في الموسم الأول، تواجه بيلجريني مع برشلونة تاتا مارتينو، وفي ثمن نهائي المسابقة؛ غادر فريقه البطولة بعد الخسارة ذهاباً وإياباً أمام الفريق الكتالوني، رغم تتويج مانشستر سيتي ببطولة الدوري في الموسم نفسه.

في الموسم الثاني للتشيلي، كان برشلونة ينتظره، لكن تحت قيادة المدرب الإسباني لويس إنريكي، وفي الدور نفسه؛ ثمن النهائي، الذي خرج منه مانشستر سيتي، من جديد، بهزيمة ذهاباً وإياباً!

في الموسم الثالث، بدأت فُرص بيلجريني تقل، وأحلامه تتلاشى، قبل أن يُفاجئ الجميع ويصعد إلى نصف نهائي البطولة، نصف النهائي الأول في تاريخ الفريق الإنجليزي، والذي حُمل فيه على مواجهة ريال مدريد.

تعادل مانشستر سيتي بإنجلترا، وخسر في الإياب بإسبانيا، ومن هُنا، أدركت إدارة مانشستر سيتي أن بيلجريني ليس أيضاً الرجل الذي سيُلامس طموحهم الأوروبي؛ فتمت إقالته بصفة رسمية وحدث الجدل الأكبر، بقدوم بيب غوارديولا إلى قيادة الفريق السماوي.

الحلم الأكبر بدا أقرب من أي وقت مضى؛ حين وصل بيب غوارديولا، لكن الفريق ودع مسابقة دوري أبطال أوروبا في الموسم الأول، بعد مبارتين تاريخيتين أمام موناكو الفرنسي، بالتعادل بستة أهداف لمثلها ذهاباً وإياباً، لكن صعود الفريق الفرنسي كان بأفضلية الأهداف خارج الديار.

في الموسم الثاني، سقط بيب غوارديولا سقوطاً تاماً، أمام قوة ليفربول المستحدثة، وانهار فريقه بخماسية لهدف وحيد، في مجموع الذهاب والإياب في ربع النهائي، وهذه المرة لم يكن مانشستر سيتي يستحق إلا ما حدث له فعلاً.

في الموسم الثالث، لعب بيب غوارديولا بكل ما يملك، حين سجل رحيم ستيرلينغ الهدف التاريخي في ربع النهائي أمام توتنهام، لكن راية التسلل كانت الحاجبَ الوحيد، بين صعود مانشستر سيتي، وإقصائه، وغادر مانشستر سيتي البطولة في مشهد درامي تماماً: غوارديولا جاثياً على ركبتيه يتحسر لأن بعد هذه المرة أيضاً، سيُحاول من جديد!

في الموسم الرابع، وصل مانشستر سيتي إلى ربع النهائي مجدداً، وكان لرحيم ستيرلينغ رأي مُخالف؛ فاللاعب الذي سجل الهدف أمام توتنهام في العام الماضي وأُلغي هدفه بداعي التسلل، لم يكن متسللاً هذه المرة، وأمام المرمى، الذي كان فارغاً من حارسه، وضع الإنجليزي الكرة خارج الشباك؛ فخرج معها مانشستر سيتي ذهنياً تماماً في مباراة عانى فيها من الأساس أمام ليون الفرنسي.

هوية البطل لمانشستر سيتي

في الموسم الخامس، كما لو كان مانشستر سيتي قد قرر أن يُزعج الجميع، ويصل إلى نصف النهائي الثاني في تاريخه، ويُطيح بفريق باريس سان جيرمان، وصيف النسخة السابقة، بالفوز عليه، ذهاباً وإياباً، ويذهب نحو البرتغال، ليكون أقرب لتحقيق حلمه ويلعب النهائي الأول في تاريخه ببطولة دوري أبطال أوروبا.

وبينما كان ينتظر الجميع أن ينتزع غوارديولا اللقب، خسره مجدداً على يد تشيلسي، الخصم الإنجليزي الذي حقق نجمته الثانية على القميص، وحرم مانشستر سيتي من النجمة الأولى على قميصه!

في الموسم السادس، تعلم بيب غوارديولا الدرس جيداً وعزم على تحدي الجميع، واستطاع أن يحضر فريقاً أذهل العالم كله، فلم يتمكن من مجاراته أحد، مجازاً وحقيقةً؛ فريق فاز على بايرن ميونخ في ربع النهائي برباعية، ذهاباً وإياباً، وفاز بخماسية على ريال مدريد في نصف النهائي، ذهاباً وإياباً، وتُوج أخيراً باللقب الأول في تاريخه بإسطنبول أمام نادي إنتر ميلان!

قد تبدو الرحلة سهلة، بسهولة سردها في هذا المقال، لكن في الحقيقة، كانت رحلة صعبة، وشاقة، رحلة احتاج فيها بيب غوارديولا أن يبحث فيها عن أفضل نسخة من نفسه، قبل أن يجدها في العناصر التي يمتلكها تحت يديه.

بيب غوارديولا (رويترز)
بيب غوارديولا (رويترز)


واجه بيب غوارديولا، طوال مسيرته التدريبية، مبدأ الحظ، سواء كان من خلال العناصر التي يُدربها، أو من خلال الأموال التي تُنفق عليه من إدارة مانشستر سيتي.

ونسي البعض أن كل الفرق الأوروبية الكُبرى أنفقت وستُنفق وما زالت تُنفق، كثيراً من الأموال في كل سوق، سواء كان في الصيف أو في الشتاء، لكن المبدأ الذي يُحكَم به على بيب غوارديولا لا يجري على أي مدرب آخر.

دع عنك برشلونة وبايرن ميونخ، لكن من لا يرى أن بيب غوارديولا اخترع فريق مانشستر سيتي؛ فهو بكل تأكيد يمتلك شيئاً في نفسه، أبعد من الاعتبارات الرياضية بالنسبة له.

الفريق الذي لم يكن يستطيع عبور دور المجموعات إلا بمعجزة، ثم وصل إلى نصف نهائي يتيم، لم يكن يحلم قط بالتتويج باللقب الأول في مسيرته ببطولة دوري أبطال أوروبا.

وهذه الحقيقة شهد بها المدربون السابقون للفريق الإنجليزي أنفسهم؛ حيث قال الإيطالي روبيرتو مانشيني، الذي عُزل من منصبه، بعد سنوات في التدبير والتخطيط لفريق مانشستر سيتي، وفي أثناء وجوده مع فريق غالطة سراي التركي، إن ما يملكه التشيلي مانويل بيلجريني في فريقه، وما يُحققه من نجاحات؛ هو في الأصل أثر فراشة لنجاح الإيطالي وأسلوبه مع النادي الإنجليزي خلال فترة وجوده هناك!

ولم يكن التشيلي بيلجريني أقل شأناً من الإيطالي، حين تواجه مع ريال مدريد في نصف نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا، الذي كان الأولَ للفريق في تاريخه، حين قال إن خروج مانشستر سيتي من النادي الملكي أمر يُحزنه؛ لأن فريقه غادر البطولة أمام نسخة ضعيفة للغاية من ريال مدريد، فريق لم يفعل أي شيء في الذهاب والإياب، وصعد إلى المباراة النهائية بفضل هدف عكسي من لاعبي مانشستر سيتي، ولو كان مانشستر سيتي قد غادر المسابقة على يد نسخة أقوى من ريال مدريد؛ لتقبل بيلجريني الأمر بصدر رحب.

كل هذه المشاهد تغيب عن أذهان الناس، حين يحكمون على بيب غوارديولا بمنظور المادة؛ إذ يتناسون أن أموال مجموعة السيتي كانت حاضرة في عهد مانشيني وكذلك في عهد بيلجريني، لكن ماذا فعلا بكل هذا الكم المهول من الأموال؟!

لقد حقق بيب غوارديولا لمانشستر سيتي أكثر من عدد ألقاب بطولة الدوري التي حققها الفريق قبل وصوله، بواقع خمسة ألقاب في عهده، في مقابل أربعة فقط قبله، واستطاع معه الفريق أن يكون شرساً محلياً، ليس شراسة مجازية، وإنما شراسة لا يُمكن فيها إلا مناطحته بفريق يتمتع بنفَس طويل، مثل ليفربول الاستثنائي مع كلوب، الذي خسر بطولة الدوري، مرتين، بفارق نقطة واحدة فحسب!

الأموال وحدها لا تكفي.. كيف صنع غوارديولا هوية البطل لمانشستر سيتي؟


لقد صنع بيب غوارديولا هذا الفريق، وأعاد تدويره ليصبح نادياً ذا شخصية وشكل بارز الملامح، فتراه ينتصر على ريال مدريد أكثر من مرة في البيرنابيو حتى كان متأخراً في النتيجة.

قبل أربع سنوات انتصر على ريال مدريد العنيد في دوري الأبطال، وانتصر عليه مجدداً برباعية كاسحة في النسخة الماضية من البطولة، واحتاج لإقصاء تاريخي في دقيقتين من رودريغو جوياس في النسخة التي سبقتها؛ ليقلب حسابات الفريق السماوي، الذي لن تجد فريقاً أوروبياً استطاع إحراج وإزعاج ريال مدريد في العقد الأخير قارياً، أكثر منه.

تقدم مانشستر سيتي منذ أيام في البيرنابيو، ثم فقد تقدُّمه في دقيقتين مجدداً، لكنه لم ينهر، بل عاد واستطاع أن يتعادل ثم يتقدم، ولعب لعبة الكراسي الموسيقية في ملعب ريال مدريد.
لاحظ أننا نحكي عن فريق إنجليزي يستطيع، للمرة الثالثة توالياً، أن يكون نداً قوياً لريال مدريد بملعب سقط فيه كبار القارة في السنوات الأخيرة، في بطولة لم يعتد أن يُعاني فيها ريال مدريد بهذا الشكل على ملعبه لأكثر من مرة إلا أمام مانشستر سيتي!

وفي المقابل، لم يقل بيب غوارديولا قط إنه يحظى بما لا يحظى به غيره، حين وصل إلى إنجلترا، قال إن الكرة الإنجليزية ليست كما يسعى إليها؛ كرة هوائية وتعتمد على العامل البدني، وسيحتاج بيب إلى فترة أطول لإقناع عناصره بأسلوبه وأفكاره.

لم يقل بيب على نفسه إنه المدرب الأفضل بسبب ميسي وتشافي وإنييستا، وإنما قال إنه يُوافق الناس في حظه الثمين بامتلاك هذا الثلاثي في برشلونة، ورغم كل هذا النجاح الذي يحدث له مع مانشستر سيتي، يتم حصر الرجل في كونه مستثمراً فقط، لا مُدرباً، بحيث يجلس على مقاعد البدلاء، لا يفعل أي شيء، سوى انتظار مضخات الأموال لتملأ الملعب من حوله بعناصر تفعل ما يحلو لها.

النجاح الأكبر في مسيرة بيب غوارديولا لم يكن قط كلَّ هذه الألقاب التي حققها، ولا الكرة الرائعة التي يُقدمها منذ أن ظهر في ثوب المدرب؛ وإنما في تكوين هذه الشخصية لفريق مثل مانشستر سيتي، فريق محلي لا يُقهر، تحول بالتدريج، وبعد عناء، إلى فريق أوروبي لا يُمكن أن تأمن شره، ولا يُمكن أن تسلم من مباريات إقصائية أمامه تنعم فيها بالراحة والطمأنينة، مهما كان اسمك وتاريخك!

لقد صنع بيب غوارديو ثورة في مانشستر فأصبح للقطب الأضعف فيها شخصية وأسلوب طاغٍ، فأصبح من كبار القارة ولا يهاب فريقاً، فريق يستطيع العودة أمام كبار القارة، ولا مانع لديه في أن يُحرجهم داخل ديارهم، ولا مانع في أن يكون الند بالند لهم، ولا مانع في أن يكون مرشحاً عليهم، أو مثلهم، مهما كانت حالته، ولا مانع إطلاقاً في أن يلعب مباراة كاملة أمامهم لعبة حقيقية، لا يوجد فيها إلا الإذلال التام والكامل، بالمعنى الحرفي للكلمة!

ما صنعه بيب غوارديولا، لا يُمكن أن يُصنع بالمال، فلغة الكرة الحالية لا تُفهم إلا من خلال مُترجم يستطيع صياغة هذه الأموال في سياق صحيح؛ وهذا، هذا بالتحديد، ما يفعله بيب غوارديولا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر إبراهيم
كاتب في المجال الرياضي وكرة القدم
كاتب في المجال الرياضي وكرة القدم
تحميل المزيد