لقد ربانا شيوخنا بقصص وبطولات طالما أعادوها علينا في الدروس والخطب؛ لنتعلم منها القيم والعقيدة والثبات، ولم نكن نعلم أن القصص ستتكرر وأن الأبطال سيكونون بيننا؛ وكأن الله أراد أن يرينا ما تربينا عليه عيانا بيانا.
لقد كنا نسمع قصة ثبات الخنساء بعد استشهاد أولادها الأربعة متعجبين، ولولا صحة الروايات ما صدقنا! وهي التي بكت أخاها صخراً قبل الإسلام لسنوات، وكانت تطلب من عينيها أن تجود بالدموع" أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندا"، هي نفسها التي قالت بعد استشهاد أولادها: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
كنا نتعجب ونحن نسمع عن استرجاع الأبطال بعد وفاة أولادهم وكيف كانوا يكملون الحروب ويعيشون الحياة، وها نحن رأينا في أهل غزة القصص تتكرر بصورة أكبر وبصبر وثبات مماثل؛ فسبحان من يعطيهم الثبات!
مشهد تلقي هنية خبر استشهاد أولاده الثلاثة سيخلد في كتب التاريخ، سيكون فقرة متميزة في أبواب الصبر والتجلد والثبات.
هذا الرجل ثبته الله ليحرم عدوه من الفرحة والشماتة، هذا تجلد الذين يعرفون أن الحياة هناك لا هنا وأن السعادة والنعيم المقيم في الموت لا في الحياة.
سبحان الله! يقف الرجل جبلا راسخاً، بطلاً شامخاً، كاتماً حزنه، دافناً أوجاعه، متعالياً على جراحه؛ ليُعلم العالم أن الجهاد مواقف، وأن للثبات رجالاً، وأن القادة يضحون لأجل أهدافهم السامية بالمال والراحة وحتى بالأولاد والأحفاد والعيال لا كما يدّعي الخونة المنافقون "وما تخفي صدورهم أكبر".
"الله يسهل عليهم يلا نكمل"، ستدون هذه العبارة في كتب الهمم والقمم، ستكون شعاراً بعد النصر وأثناء التعمير؛ فهذا البطل يواسي المجروحين في المشفى وأولاده لم يجدوا كفناً لهم في غزة، ومع ذلك سيكمل الطريق ويواسي المجروحين بقلبه حديث الجرح؛ لأنه يعلم أن ثبات القائد في الملمات سبيل للنصر وسر من أسرار تجاوز العقبات، ويؤمن أن النصر سيعبر عبر جسر الشهداء وأن شجرة التحرير ستُروي بدماء الأتقياء.
رجل يتلقى خبر موت أولاده الثلاثة وأغلب أحفاده بهذا الثبات، رجل من عالم غير عالمنا، له قلب غير قلوبنا المنغمسة في الدنيا، وله عقل غير عقولنا المشتتة في مناكبها، ولو أنهم قصوا علينا المشهد دون أن نراه لكذبناه !
هذا الرجل ينتظر التحرير مهما كلفه، وينظر للسماء ليناجي الذي كلفه، يشكو له حاله ويبث له أحزانه ويُسر في نفسه أشواقه.
مشهد البطل المجاهد هنية لابد أن يغير واقعنا المرير، هذا المشهد يغني عن ألف محاضرة عن الثبات والتجرد وعدم التعلق بالدنيا، هذا اللوحة الإيمانية التربوية الرائعة ستخلد في سجلات الانتصار وفي ذاكرة الأمة لتجاور أخواتها من اللحظات والعبارات الخالدة مثل (معلش الدحدوح أو روح الروح للنبهان أو كلهم فدا فلسطين لأغلب أبطال فلسطين)، وسترسم هذه العبارات خارطة الطريق لأمة قوية فتية ثابتة منتصرة.
لقد شهد كل من زار البطل في مجلس عزاء أبنائه أنه كان مجلس تهنئة لا عزاء، رجل شامخ يقف مبتسماً لكل من يسلم عليه، داعياً لكل من يدعو له، يقف أسداً لم تنل من عزيمته ضربة العدو الغاشم، يقف مرفوع الرأس لأنه ما زال على الطريق؛ وكأنه يُعلّم العالم عملياً قول الشاعر:
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدة وجهاد
كان صابراً محتسباً بشهادة الجميع "إنا وجدناه صابراً نعم العبد"؛ فنعم العبد أنت بصبرك وثباتك وصمودك يا أبا العبد.
سلام عليكم أيها الشهداء الأبرار وسلام على كل شهداء غزة العزة، سلام على دموع الأب التي لم نرها ولكنها ستنزل في لحظات الذكرى وغيابات جب الحنين، ستسقط مع تساقط أوراق الأيام وهبوب رياح الشوق، ستنهمر من القلب قبل العين بعد هدوء المكان واسترجاع الأيام؛ فالشهداء أعز ما كان يملك وما كان يدخر، معهم الأفراح والأتراح والذكريات والمواقف والابتسامات والنجاحات، كان يتوق أن يصلي معهم في الأقصى بعد لحظات التحرير مكبرين، كان ينتظر عودته لهم بعد النصر حاملاً معه ما يحبه الأحفاد وما يسر قلب الأولاد بعد غياب السنين، وسلام على الأم الصابرة أم العبد أم الشهداء الأبطال وزوجة الشهيد الحي؛ فهذا الثبات العائلي ثمرة ما بذرته ونتاج ما غرسته.
سلام عليكم آل هنية، وسلام على البطل الصابر، سلام على غزة وأهلها حتى مطلع النصر وتكبيرات الفرح، سلام عليكم إلى يوم الدين وحتى يجتمع المتحابون في عليين؛ فلسان حال كل فاقد حبيب وكل أب حزين وكل أم مكلومة:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم في موكب الحشر نلقاكم وتلقونا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.