تحيي الجزائر في شهر مارس من كل سنة ذكرى وقف إطلاق النار، أو ما نطلق عليه اسم "عيد النصر"، والذي كان نتاج مفاوضات طويلة وعسيرة، وتحقق في الجولة الأخيرة المعروفة بمفاوضات إيفيان الثانية (ما بين 7 و18 مارس 1962)، وجاء إحياؤها هذه المرة وملحمة الطوفان في أوج تفاعلها وفي أخطر مراحلها مع دخولها مرحلة التفاوض وكثرة الحديث عما اصطلح عليه بـ"اليوم التالي"، أو بالأحرى ما بعد حرب الإبادة التي يقودها الغرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة خصوصاً. وتكمن أهمية هذه المفاوضات وخطورتها في إمكانيات المراوغة والتدليس بالضغط، والتغرير والاستدراج ليحقق المحتل الإسرائيلي ما عجز عن إنجازه بقوة الحديد والنار، وحديثنا هنا لا ينطلق من فراغ، وهو ليس مجرد تخمينات أو استنتاجات نظرية، بل هي حقائق سجلها التاريخ مرت عليها الثورة الجزائرية في مقارعتها للمحتل الفرنسي أحببت اعتمادها كمرجع مقارنة لفهم حقيقة ما يحدث الآن في المفاوضات غير المباشرة بين أبطال المقاومة ومجرمي الاحتلال الإسرائيلي.
1-البداية واحدة:
فكما رفض العدو قبل وبعد الطوفان أي شكل من أشكال التعامل مع المقاومة، وأصر على حرب الإبادة والتدمير وشجعه على ذلك الغرب وخاصة أمريكا منطلقين من كون المقاومة الفلسطينية إرهاباً، وأصحابها لا يستحقون إلا الموت، والتفاوض معهم محرماً.
كذلك المحتل الفرنسي رفض رفضاً تاماً التفاوض مع المجاهدين الجزائريين في بداية ثورتهم، معتبراً إياهم إرهابيين، وفي أحسن أحوالهم متمردين. وعرض بدلاً من ذلك استسلام المجاهدين مقابل ضمان حياتهم وسماه رئيسهم حينها "سلام الشجعان"، وهو نفس العرض الذي تقدم به المحتل للمقاومة وأضاف إليه بند تهجير قياداتها.
لكن فرنسا تراجعت عن موقفها بعد ذلك تحت الضربات الموجعة للثورة، وما سرّع في خضوعها لمبدأ التفاوض مع "الفلاقة" (الاسم الذي أطلقه العدو على المجاهدين بمعنى إرهابيين) هو عجز المستدمر عن اختراق التلاحم الشعبي مع الثورة، الخسائر الاقتصادية والبشرية التي لحقته، الضغوط الدولية وتسجيل الثورة لانتصارات سياسية، ضغط الشارع الفرنسي وتمرد الجنرالات، وكذلك المحتل الإسرائيلي اضطر للجلوس للتفاوض تحت ضغط عمليات المقاومة وصبر حاضنتها الشعبية، يضاف إليها نفس العوامل الأخرى تقريباً التي ذكرنا أنها أرغمت المحتل الفرنسي على الجلوس أيضاً للتفاوض.
2- المحتل من طبعه الخداع والمناورة:
تاريخياً يعمل المحتل على خداع الثوار بإظهار نيته الخروج من الباب، مبيتاً الخطة للعودة بقوة عبر النافذة، وهذا ما نسجله على المحتل الفرنسي الذي تمسك بقوة بطروحات تنقض وتنسف ثوابت ومبادئ أساسية قامت من أجلها الثورة، مع ملاحظة أنه على التوازي مع إبداء نية التفاوض عمل على تكثيف وتوسيع عملياته الحربية وتعزيز وجوده العسكري بحيث بلغت قواته بعد اعتراف رئيسه حينها (الجنرال ديغول) بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره حوالي 500 ألف جندي مدعومة أطلسياً، يضاف إليها قوات الدرك والشرطة وقوات الخونة (يعرفون محلياً باسم الحركي) وميليشيات المستوطنين، ونجد أن نفس منطق الخداع والمراوغة وتكثيف عمليات الإبادة على الأرض وبدعم غربي غير مسبوق تعامل به العدو على التوازي مع تفاوضه مع المقاومة.
3-محاولة تحقيق إملاءاته:
في كل جولات الحوار على مدى سنتين على الأقل (المفاوضات المعلنة) أصرّ المحتل الفرنسي في مفاوضاته على محاولة فرض مجموعة نقاط، والدفع لحرمان الثورة من تحقيق أهدافها، خاصة في شقها السياسي، فكان في كل جولة يؤكد على:
١– الحكم الذاتي: فمقابل مطلب الاستقلال والتحرر الذي قامت من أجله الثورة أساساً، عرض الفرنسيون حكماً ذاتياً تحت سلطتهم.. وهذا ما يطرح على المقاومة تحت عناوين مختلفة مثل عودة الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع، أو وضعه تحت سيطرة سلطة أوسلو، وأخيراً إنشاء ما سمي بسلطة العشائر.
٢– فصل الصحراء: وهو سعي للمساس بالوحدة الترابية للجزائر بفصل جنوبها عن شمالها، حيث استماتت فرنسا في محاولتها إبقاء سيطرتها على 80٪ من مساحة الجزائر وخاصة في جزئها الغني بالبترول ومختلف المعادن..وهذا المسعى الخبيث يسعى لتكريسه العدو الإسرائيلي عبر تفتيت القطاع إلى 3 أجزاء وخلق منطقة عازلة مع مستوطناته في غلاف غزة.
٣– التفتيت العرقي: وهي من أخطر الطروحات الاستعمارية في سعيه لكسر وحدة الشعب بتقسيمه عرقياً، حيث ادعى أن الشعب الجزائري ليس واحداً، والظاهر أنه استوحى ذلك من تجربته في تفتيت لبنان طائفياً، وهذا ما يركز عليه الغرب المنافق في تصنيفه للشعب الفلسطيني بين فلسطيني إرهابي منبوذ، وهم حاملو لواء التحرر، وفلسطيني "كيوت" يمكن التعامل معه ودعمه، وهم مجموعة الخونة والمتخاذلين، وحتى إثارة موضوع العشائر وتفريعاتها يخدم هذا المسعى، ولا أستبعد أن يكون مصدره مخابر التآمر البريطانية.
٤– الطاولة المستديرة: رفضت فرنسا أن يكون المجاهدون هم الممثل الوحيد للشعب الجزائري، بل أصروا على توسيع طاولة المفاوضات لأطراف أخرى هي جزائرية في ظاهرها لكنها مؤيدة للمحتل وهيمنته، وهذه من القضايا التي يعمد لاستعمالها العدو الإسرائيلي كل مرة بمحاولته إشراك أطراف أخرى مثل سلطة التنسيق الأمني، أو دول التطبيع، وهي في العموم مؤيدة لطروحات المحتل في المجمل، ويصر على حضورهم بهدف تمييع النقاش ومحاصرة ممثلي المقاومة.
٥- الهدنة: من الخطط الشيطانية التي جربها المحتل الفرنسي اقتراحه على المجاهدين مشروع هدنة لمدة محدودة، رافضاً فكرة وقف إطلاق نار دائم حتى يتمكن من الالتفاف على الثورة وضمان استمرار وجوده في الجنة.. وإذا كانت هذه الخطة اعتمدها الفرنسيون في ستينيات القرن الماضي، فالغريب أن هذه النقطة بالذات هي من أهم البنود التي يصر عليها اليوم العدو الإسرائيلي وكافله الغربي، بهدف حرمان المقاومة من أوراق قوتها الضاغطة ومن ثم أخذ الوقت اللازم للإجهاز عليها.
4- نفس المقدمات تؤدي إلى نفس النتيجة:
فكما نسجل نفس خطوات التعامل تقريباً، ونفس الحيل والمراوغات في المجمل، وباعتماد المحتل وداعميه لنفس أساليب الضغط لتحقيق أهدافهم (الإبادة وسياسة الأرض المحروقة…)، ومع تزايد الضغط الدولي الشعبي والرسمي على المحتل وكفيله الذي لم يعرف هذا الزخم ولا هذا المستوى من قبل، ومع أخذنا بعين الاعتبار الفارق الأساسي البارز وهو أن الثورة الجزائرية لم تتعرض لنفس حجم الخيانة من محيطها كما تعرضت له الثورة الفلسطينية والتي عراها "الطوفان" وأخرج أصحابها إلى العلن، نتوقع أن تفرض المقاومة شروطها، ويستفيد شعبنا المقاوم في غزة من استراحة محارب استحقها، ويتجرع الخونة ذل خيانتهم، وسيسجل التاريخ إصرار دول الجوار على محاصرة غزة وتجويعها والاجتهاد في جمع المعلومات الاستخباراتية لصالح العدو، فالنصر صبر ساعة، وإخواننا في غزة صبروا شهوراً، ولن يخذلهم الله، ولن يحدد مستقبل غزة ومسار التفاوض إلا بندقية المقاومة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.