وسط كومةٍ من الأعمال الفنيَّة الرديئة، والتي وصفها أحدُ باحثي علم اجتماع الحالة المصريَّة المرموقين أكاديمياً في المهجر بمصطلح لاذع، وهو:"التنافس على الانحطاط"، على حد قوله، نظراً لجملة من العوامل على رأسها:
الإصرار على تسويق البطولة المنشودة اجتماعياً على أنها البطولة الفرديّة الرجعيّة قيمياً، من قبيل استعراض الأجساد الذكوريّة المفتولة والصّراع البدائي على الأنثى.
التوظيف السياسي للتاريخ، لاسيما التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى، بطريقة مبتذلة لأغراض مصلحيَّة ضيّقة، من ممالك النار سابقاً إلى الحشّاشين حالياً.
سيادة وتحكّم شبكة محدودة من علاقات القرابة والشلليّة على معايير توزيع الأدوار، معظمهم من الطبقة المخمليَّة (الإنستجراميَّة) المعزولة وجدانياً – وفيزيائياً حتّى – عن هموم المتلقّي المنشود، فهذا المخرج ينجّم زوجته، وهذا الممثِّل يقف في معظم مشاهد العمل وجهاً لوجه مع ابنه البيولوجي.
وسط كلّ هذا التشوّش، بدا في النصف الثاني من رمضان 2024، أنّ هناك شيئاً مختلفاً يلوّح من بعيد، ربّما يشذّ عن هذا النّسق ويستحقّ الوقوف عنده، وهو مسلسل مليحة.
ما المختلف؟
فنيّاً يلعب دور البطولة الذكوريّة، أمام "مليحة" ممثّل موهوب، استطاع تقديم نفسه جيداً على مسارح الدّراما بالرغم من كونه عابراً في الأساس للحقول الفنيَّة، وهو دياب، الَّذي كان مطرباً شعبياً في الأساس، قبل أن يظهر في مجال الدراما.
ويقدَّم العمل في حلَّةٍ بصريّة جذّابة لافتة، تشبه ثيمة تصوير أفلام المهرجانات الثقافيَّة الدوليَّة رفيعة المستوى، بحيث قد يخيَّل للمشاهد أنَّ مسلسل مليحة عبارة -في الأصل- عن فيلم تسجيليّ وثائقيّ طويل بعض الشيء، ويعود ذلك إلى رؤية المخرج عمرو عرفة وفريقه المساعد.
ومع هذا كله، فإنّ العامل الأهمَّ في تمييز "مليحة" عن باقي أعمال الموسم الرمضانيّ على الإطلاق لم يكن فنياً في الأساس، وإنما في المضامين والرَّسائل الَّتي شذَّت عن نسق السّيولة والتّرفيه والدّروشة والرجعيَّة الّذي هيمن على باقي الأعمال من جهة.
بالتّوازي مع "الحمولة السياسيَّة" اللافتة في هذه الرسائل، حيث الاستعلان بالانحياز إلى القضيَّة الفلسطينيّة، وهو ما يتعارض -ظاهرياً على الأقلّ- مع مبادئ ومقوّمات النظام الحاكم منذ عقد.
بصمات النظام
تعدّ الشّركة المنتجة لـمسلسل مليحة" (DS+) واحدةً من أذرع "الشركة المتّحدة" الَّتي تعتبر بدورها "ذراع" النظام الحاكم، وفقاً للقاموس السياسي للسيسي، في مجال الدّراما والإنتاج الفنّي، تلك الفكرة -أي السيطرة على المجالات المدنيَّة ذات المحتوى التّعبوي- الَّتي داعبت مخيالَ السلطة القائمة في مصر منذ لحظة تشكّلها.
فقد استحوذ النّظامُ على سوق الإنتاج الفنيّ، درامياً وسينمائياً، والإعلام، من خلال "المتحدة" الَّتي انبثق عنها لاحقا مجموعة من الشركات الأصغر، من ضمنها الكيان المنتج لمسلسل مليحة كما سيطر النظام على محطَّات "المشاهدة" والتوزيع في وقتٍ مبكّر من تشكّله، إمّا بالاستحواذ أو بالتّأسيس مثل "دي إم سي" – ومنصة "شاهد"، وحتَّى وصولًا إلى تأسيس الذراع الإخباريّة الإقليميّة بصرياً وهو: القاهرة الإخبارية.
البطل الذكوري في العمل -دياب- أيضاً هو بدوره واحد من مجموعة من الكوادر التمثيليَّة الَّتي باتت مرشَّحة سنوياً للمشاركة في "الدراما السياسيَّة" الَّتي تنتجها "المتَّحدة"، وعلى رأس القائمة أمير كرارة وأحمد السقَّا وياسر جلال وأحمد عزّ وكريم عبد العزيز ومحمد إمام، حيث يحلّ دياب ضمن الكادر الرّديف لهؤلاء النجوم من الصفّ الأوَّل.
وفيما يبدو أنه كان استجابةً لـ"قرار فَوقيّ" بسرعة إنجاز هذا العمل المسيَّس على غرار التّوجيهات الأيقونيَّة لكامل الوزير بسرعة التنفيذ في مجال الإنشاءات، فقد تمَّ بدء تصوير "مليحة" قبل أسابيع قليلة جداً من الموسم الرمضانيّ، خلافاً لما هو معروف وثابت عن تحضير الأعمال الرمضانيَّة قبلها بـ 6 أشهر على الأقلّ.
وتنجلي أيّ شكوك بخصوص تبنّي النظام في مصر لهذا العمل الدّرامي، بالوقوف أمام حقيقة استقبال السيسي، خلال فاعليَّة حفل إفطار الأسرة المصرية، بطلة العمل الفلسطينيَّة الَّتي أدّت دور "مليحة"، وعرض لقطات من المسلسل وتبادل الإشادات بين الطرفين، على أساس كون العمل مساهمة مصريّة في دعم القضية الفلسطينية.
أين الإشكال؟
يثير هذا التبنّي السّياسي الصّريح من أعلى هرم السلطة في مصر لهذا العمل المحمَّل بالرّسائل المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، الأسئلة عن كيفيَّة الجمع والتَّوفيق بين الحقيقة المقطوع بها عن العلاقات المتميَّزة بين مصر السيسي وإسرائيل، وبين تقديم رسائل دراميَّة مضادَّة لهذه الحقيقة في نفس الوقت.
فقد شهد العقد الأخير محطّات غير مسبوقة في سياق التّناغم بين القاهرة وتلّ أبيب، على رأسها من الجهة الإسرائيليَّة الموافقة على، بل والتفاوض، على بعض صفقات الأسلحة الكبرى بغرض تدعيم الجيش المصري في حربه ضد الإرهاب إقليمياً، كما ورد في تصريحات رسميَّة لموشيه يعالون وزير الحرب الأسبق في الجيش الإسرائيلي، وفي ملابسات محاكمة نتنياهو على تمرير صفقة الغواصات الألمانيَّة لمصر.
كما شارك الجيش الإسرائيلي سرّاً وعلناً في تعضيد قوَّة الجيش المصريِّ ونفوذه في معارك سيناء ضد التمرّد القبَلي الإسلامي المسلَّح، والَّذي كان في طليعته تنظيم "ولاية سيناء"، حيث تصدّى سلاح الجو الإسرائيلي لمحاولة التنظيم تقويض سلطة النظام المصري في شمال سيناء عبر الاستحواذ على قطاعات مهمَّة يوليو 2015 في رفح والشيخ زويد، ويبرز هنا دائماً تصريح ديفيد كيركباتريك عن عدد 100 غارة نفّذها الطيران الإسرائيلي في سيناء حتّى عام 2018.
كذلك وافق الجيش الإسرائيليّ على السّماح بتقنين زيادة الانتشار العسكري المصريِّ في المنطقة الحدوديَّة "ج"، من خلال تعديل الملحق الأمني من اتفاقيَّة كامب ديفيد عام 2021، وهو ما جسد ذروة التّفاهم والانسجام بين الطرفين.
في المقابل، فقد استعلن السيسي أمام الرأي العام المصري بضرورة دمج إسرائيل في محيطها الإقليميّ عبر الجغرافيا الاقتصاديَّة والسياسيَّة، أو عبر المرحلة الأخيرة من اتفاقيَّات التطبيع بعد كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، فيما عرف بالنسق الإبراهيمي من التطبيع.
ومن السياسي والأمني إلى الاقتصادي والثقافي الممتدّ عبر الزّمن، فقد ربط نظام السيسي -بقوَّة القانون الدّولي والمال السياسي والجغرافيا الاقتصاديَّة- المصالح الحيويَّة المصريَّة بنظيرتها الإسرائيليَّة عبر صفقة استيراد الغاز الإسرائيلي المستخرج من حقلي تمار ولفياثان المسروقين من الثروات الفلسطينيَّة لمدة 15 عاماً بقيمة 15 مليار دولار، بدعوى تسييله لأوروبّا وإحراز "جول" في تركيا، لندخل عصراً جديداً من التطبيع الاقتصادي بعد مرحلة "الكويز" وتصدير الغاز أيام مبارك.
ولا ننسى دور السيسي في تثبيت شرعية الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلَّة تاريخياً في المحافل الرسميَّة الدوليَّة بترويج أنّ الحلّ النهائي المنشود "للصراع" هو إقامة دولة فلسطينية "منزوعة السلاح" على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، وشرعنته لسرديَّة الاتّحاد على قاعدة قتال العدوِّ المشترَك: الإسلام السياسي السنّي بكلِّ أشكاله ومسمّياته.
مسلسل مليحة.. التوقيت وفكّ الشفرة
ما الذي تغيَّر إذاً؟ هل انقلب الطرفان، المصري والإسرائيلي، على بعضهما البعض بعد عقد من الوئام؟ في حقيقة الأمر، لا شيءَ جوهرياً في الأفق، والتّوقيت يحلّ اللغز!
يؤرّخ مسلسل مليحة -بإطلاقه وتبنّيه سياسياً- إلى حقبة جديدة، وهي حقبة: العلاقات بين الطرفين، المصري والإسرائيلي، في عالَم ما بعد القضاء على داعش، وفرعه السينائي شديد الخطورة، وهو ما ينعكس بدوره على انتهاء سلسلة "الاختيار" الَّتي كانت قد جسَّدت مراحل مهمَّة في هذه الحرب، على رأسها القبض على هشام عشماوي والخلاص منه، ومعارك المنسي ورجاله ضمن الكتيبة 101.
رسَّخت تلك المرحلة السابقة مفهومين أساسيين ضمن وظيفة "الدراما السياسية" الَّتي تبنّاها النظام المصري، وهما: التأكيد على انقضاء عالم ما بعد أكتوبر 1973، حينما كانت إسرائيل هي العدوّ، وكانت وظيفة الجيش المصريِّ هي الرّباط لتحرير سيناء من براثنها، وظهور عالَم جديد يتحد فيه الطرفان ضدّ العدوِّ المشترَك، وهو عدوّ "يشبهنا ونشبهه" كما وصفه السيسي، كنايةً عن التمرد القَبَلي الإسلامي في سيناء.
وفي عالَم ما بعد انقضاء داعش – سيناء، الذي جسدته سلسلة "الاختيار" المنتهيَّة، نكون بصدد عالم "مليحة"، الَّذي تصبح فيه مهمَّة الجيش المصري الجديدة هي: ترك الفلسطيني وتسليمه إلى جحيم العدوان الإسرائيلي دون دعم جوهريّ حقيقي يعزز صموده، بذريعة "محاربة مخطط التهجير"، وهو ما يقوم به الضابط المصريّ الذي يعيد مليحة من الحدود المصرية الليبية إلى غزَّة.
يتجاهل العمل حقيقة أنَّ الضمان الحقيقي الحاسم لبقاء الفلسطينيّ في أرضه، هو دعمه دعماً عسكرياً واقتصادياً نوعياً، وفتح خطوط إمداد مستدامة تعزز صموده في الأرض والمكان؛ ليقفز -فجأة- إلى نقطة أنّ الفلسطينيّ مكانه في الأرض، دون أي معطيات أو ركائز لهذا البقاء، وكأنّ الإنسان يمكنه العيشُ في أيّ فيزياء، حتَّى لو انهالت على رأسه القذائف وانتهت مقوَّمات العيش من مسكن وطعام ودواء وأنثربولوجيا ثقافية: الذكريات والمكان.
يخدّم العمل وفقاً لهذا البناء على الموقف المصريِّ المشين تاريخياً إزاء الحرب الجارية على غزَّة، والَّذي تبلور في ادعاء رفض التهجير، دون اتّخاذ الإجراءات اللازمة والحاسمة والأخلاقيَّة لتعزيز بقاء الغزيّ في أرضه، وعلى رأسها التلويح بالتدخّل الخشن لوقف الإبادة والرّعب وضمان استدامة مقوّمات الحياة.
تحصر تلك السرديَّة اللئيمة الفلسطينيَّ عامةً والغزيّ خاصةً في معادلة شديدة الانحطاط: فإمَّا أن تقبل بالوضع القائم، وهو الإبادة والاستئصال أو العيش في العراء على خشاش الأرض بحيث تكون موجوداً بيولوجياً فقط، كما الإنسان الأول؛ أو تمسي خائناً إذا قررت الخروجَ وآثرتَ النجاة.
ولا يحقّ لك السؤال أبداً عمّا قدّمه جارك لتعزيز صمودك في الأرض، فهذا ليس موضوعاً للنقاش، وعليك الاختيار!
المزيد من السياسة
يؤدّي "مليحة" أيضاً وظيفة سياسيَّة غاية في الخطورة، وهي:"التفريغ المهندَس" لمشاعر الغضب، وهي استراتيجيَّة تبنّاها النظام المصريُّ بوضوح منذ حوالي 5 أعوام.
فعوضاً عن ترك المجتمع المدني يتفاعل مع القضايا الإنسانيَّة والأخلاقيَّة بهامشٍ من الحريَّة كما كانت الحال أيام مبارك، حيث كانت المظاهرات وقوافل الإغاثة حاضرة على الدوام، فإنّ النظام السياسيَّ الحاكم بات ينوب عن الجماهير في تفريغ تلك المشاعر؛ خشية أن تتحول التفاعلات الشعبيَّة العفويَّة إلى نواة للتشبيك والالتقاء وتهديد النّظام.
أبرز الأمثلة على ذلك، كان تطوّع السيسي قبل سنوات للاضطلاع بما يشبه التحفّظ على التجاوزات اللفظيَّة الرئاسيَّة من الجانب الفرنسيّ في حقِّ الإسلام والرّسول، والَّتي فجَّرت مشاعر الغضب في العالم الإسلامي قاطبة، وهو ما أوَّله إعلام النظام لاحقا على أنّه موقف حازم من الرئيس ناب فيه عن المجتمع الغاضب وسجَّل موقفاً للتاريخ أمام الصلف الفرنسيّ.
بينما كانت الحقيقة أنّ السيسي هو أول رئيس دولة مسلمةٍ يبادر بزيارة باريس في هذا التوقيت الحساس، في زيارةٍ لم تخل من التفاهمات والمصالح، واقتصر دور تلك "اللقطة" على قطع الطريق على أيّ زخم شعبي محتمل ميدانياً على أرضيَّة إسلاميَّة؛ وهو إحدى وظائف إنتاج "مليحة" بتلك المشاهد المنتقدة للاحتلال.
يشير العمل أيضاً إلى رواية السيسي عن أحداث الربيع العربيّ، باعتبارها مؤامرة أو فوضى في أحسن الأحوال، أدَّت إلى الإضرار بالدّول والمجتمعات، وهو ما يظهر في نموذج اضطراب ليبيا 2012، الذي دفع "مليحة" إلى معاودة التفكير في العودة إلى غزّة.
ويتّسق التبنّي السّياسي المصريّ للعمل الذي يتضمَّن مشاهد توثّق جرائم الاحتلال مع "النمط المتوتر" الكائن حالياً في العلاقات بين الطرفين، والذي يقود دفته اليمين الإسرائيلي بقصد التحرّش بمصر، والحصول على مزيد من التنازلات منها، وإعادة تصوير إسرائيل بمظهر "الفاعل" مجدداً بعد فضيحة السابع من أكتوبر.
أبرز مظاهر التوتر "العارض" بين الطرفين، والَّذي يأتي "مليحة" في سياقه، هو تعمد إسرائيل -كالعادة- قتل أفراد من عناصر حرس الحدود في الجانب المصريّ، واتّهام مصر بعدم القدرة "التقنيَّة" على ضبط الحدود، ومحاولة تدبير طرق لإدخال جرعات المساعدات المحدودة بعيداً عن معبر رفح، إمّا من قبرص وأشدود بحرياً، أو عبر إيريز والأردن برياً.
وهو ما يبدو أنّ مصر قررت الردَّ عليه أيضاً من طرفها بإنتاج هذا العمل بالأمر المباشر على عجل، استغلالاً لحساسية الجانب الإسرائيلي من هذه الانتقادات، حيث سبق أن اعترضت الصحافة العبريَّة على مشاهد توثيق العداء المصريِّ الإسرائيلي التاريخي في فيلم "الممر".
على ألا تُخلّ هذه التوترات العارضة والمؤقَّتة بالنسق الاستراتيجي للعلاقات الثنائيَّة مثل اتفاقية السلام أو اتفاقية استيراد الغاز، بل على العكس، تخطط مصر حالياً لاستيراد المزيد من الغاز الإسرائيلي المسروق من الفلسطينيين بالعملة الصعبة لتشغيل المحطات الكهربائية المنشأة حديثاً، تفادياً لحدوث أزمة مجتمعية في الطاقة المنزلية خلال الصيف، حيث تلتقي مصالح الطرفين استراتيجياً من جديد، ولا تستطيع "مليحة" تعكير صفوها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.