في عالم الأدب، قليلون هم الكتّاب الذين يمكنهم نسج واقع من خيوط الخيال بمهارة فائقة، وجوزيه ساراماغو هو أحد هؤلاء النوادر. يبدو أن الغوص في أعماق الإنسانية، مستكشفاً زواياها المظلمة والمضيئة بالتساوي، هو ميدانه حيث يبرز ساراماغو ببراعته. يُطلق عنان فكره من سؤال بسيط، لينطلق بعدها في رحلة عبر عالم متكامل من التفاصيل المعقدة والغنية، التي تمتد لتشمل كل شيء من الدهشة إلى الرهبة، دون أن تبدو لهذا العمق نهاية.
تدور أعمال ساراماغو حول فكرة مركزية تبدو بسيطة في الظاهر، لكنها تحمل ضمن طياتها العمق والتعقيد. يرى من خلالها أن المستحيل قابل للتحول إلى واقع، وبناءً على هذا الافتراض، ينطلق ساراماغو في استكشاف هذه الفرضية، محشداً في طريقه كل ما يمكن أن يتنافى مع المنطق، ومع ذلك، ينجح في إقناعنا بإمكانية واقعه الخيالي.
عندما يطرح ساراماغو تساؤلاته الجوهرية في بداية عمله، لا يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن ينغمس في البحث عن إجابات، ساعياً للبرهنة على صحة فرضيته، أو حتى اختلاق إجابات لتلك التساؤلات. هذا النهج يمنح قراءه فرصة ليس فقط للتفكير والتأمل، ولكن أيضاً للشعور بعمق الأسئلة المطروحة.
روايته التي تدور حول فكرة العمى الأبيض، تختبر حدود إنسانيتنا وتضعنا وجهاً لوجه مع فظاعات قد تسود في أوقات الأزمات. وكعادة ساراماغو يبدأ بالحدث الرئيس مباشرة حيث تبدأ الرواية بإصابة سائق بالعمى فجأة في مشهد يعكس الفوضى والرعب الذي يمكن أن يعتري المجتمع بسرعة. يتطور الوضع ليشمل وباءً من العمى يجتاح المدينة، لا يرى المصابون به إلا البياض الشاسع، مما يدفع الحكومة لعزل المصابين في حجر صحي قاس.
في هذا العزل، نلتقي بزوجة الطبيب، الشخصية الوحيدة التي لم تُصب بالعمى، والتي تظاهرت بالإصابة لتبقى بجانب زوجها. من خلال عينيها، نرى انهيار المجتمع وفقدان الأخلاق في مواجهة الأزمة. يتجلى في الرواية قدرة ساراماغو الفريدة على تصوير الإنسان في أقصى درجات ضعفه وقوته.
ساراماغو يستكشف حدود الإنسانية
ما يجعل أعمال ساراماغو استثنائية هو قدرته على الجمع بين السرد الأدبي العميق والأسئلة الفلسفية الكبيرة، مثيراً بذلك التفكير والنقاش حول طبيعة الإنسان والمجتمع. في "العمى"، لا يتركنا ساراماغو مع قصة عن البقاء وحسب، بل يدفعنا للتساؤل عن قيمنا وأخلاقنا وما نراه من حضارة.
ولم يحدد ساراماغو هوية البلد الذي ضربه الوباء، وتعمد عدم ذكر أسماء الشخصيات، مكتفياً بوصف مهنهم وأحوالهم كالطبيب، والأعمى الأول، والطفل الأحول، والمرأة صاحبة النظارة السوداء، في محاولة لإشراكنا في تجربة العمى ذاتها.
ساراماغو يقودنا ببراعة من فظائع إلى أخرى أشد، ومن رعب إلى ما هو أدقع رعباً، لنجد أنفسنا متنفسين الصعداء بعد انقضاء أحداث الرواية المثيرة.
قد يشعر القارئ بالقلق والاشمئزاز والتوتر أثناء متابعة السرد الروائي، إذ يعتبر تجرد المجتمع من إنسانيته مأساة حقيقية، ويمثل تحدياً كبيراً لجوهر إنسانيتنا عندما تحل الكوارث وتتلاشى مظاهر الحضارة.
سنرى بعض الأفراد يتحولون إلى مجرد كائنات تحركها غريزة البقاء، حتى لو كان ذلك يعني البقاء على حساب حياة الآخرين. وسيظهر الجانب المظلم في البعض، حيث يتخلون عن إنسانيتهم مقابل ملء أطماعهم.
طول الرواية يعرض جوزيه ساراماغو المشهد بحيوية بالغة، حيث يُحس القارئ بالقسوة من خلال وصفه الدقيق، مشيراً إلى تدهور يهدد البشرية، قد يحدث في أي لحظة إذا ما فقد الناس صوابهم.
ليس فقدان البصر هو المصيبة الكبرى، بل فقدان البصيرة والوعي الإنساني، وكل ما يميزنا كبشر عن الوحوش. من خلال التاريخ، خلال الحروب والكوارث، رأينا من يبرر التضحية بالآخرين من أجل النجاة.
الرواية "العمى" تدعونا للتفكير في القدر المتأصل من القبح في الطبيعة الإنسانية، وما إذا كانت الحضارة مجرد قناع يخفي حقيقة أبشع، وإلى أي مدى يمكن أن نذهب في التضحية بإنسانيتنا من أجل البقاء.
بعد القراءة، يطرح السؤال نفسه: هل الحضارة المزيفة هي التي حوَّلت الإنسان إلى وحش مجرد من القيم، أم أن الطمع والنظريات الرأسمالية قد عززت قانون البقاء للأقوى، أم أن طبيعتنا البشرية لم تتغير، ولكن الظروف تفرض سلوكيات معينة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.