فقدان الحرية والإنسانية من أجل التطور..كيف تنبأت رواية “عالم جديد شجاع” بواقعنا اليوم؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/07 الساعة 11:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/07 الساعة 11:41 بتوقيت غرينتش
صور تعبيرية -shutterstock

في متاهة الديستوبيا الأدبية، تقف رواية ألدوس هكسلي "عالم جديد شجاع" بمثابة استكشاف هائل للمقايضات بين التقدم التكنولوجي وحرية الإنسان. نُشرت الرواية  قبل 9 عقود بالتحديد في عام 1932، وترسم مستقبلاً يتم تصميم المجتمع فيه بدقة، من خلال التقنيات التي تسمح بها الدولة لدعم وهْم السعادة والاستقرار. 

من خلال تجسيده لعالم يتم فيه توليد البشر وتأهيلهم لتلبية متطلبات الأنظمة الشمولية، يطرح الكاتب والمؤلف الإنجليزي ألدوس هكسلي رؤية مظلمة للحضارة، متنبئاً بمستقبل يُفصل فيه الأفراد عن هويتهم واستقلاليتهم في مقابل الراحة والنظام.

في رواية "عالم جديد شجاع" هناك استجواب نقدي للتكلفة المرتبطة بالتقدم التكنولوجي الجامح. حيث يصوغ هكسلي سرداً يعكس مخاوفه العميقة بشأن إمكانية قيام العلم والتكنولوجيا بتقليص الفاعلية البشرية، وتأطير مجتمع يتحول فيه الناس إلى تروس داخل آلة واسعة من سيطرة الدولة.

لم يكن يحاول هكسلي فقط عرض ونقد كوارث عصره من خلال رواية "عالم جديد شجاع"، ولكنه أيضاً كأنه كان يحاول أن يحذّرنا نحن الأجيال القادمة، من المسار المحفوف بالمخاطر للتخلي عن الحرية من أجل الراحة التكنولوجية وبعض الرفاهية المادية.

كانت رواية"عالم جديد شجاع" ابنة بيئتها التاريخية في أوائل القرن العشرين، وهي الفترة التي اتسمت بالتفاؤل الأعمى بالوعد الذي يقدمه العلم والتكنولوجيا للدخول في عصر جديد من الرخاء والسلام. 

لقد غرست آثار الثورة الصناعية إيماناً واسع النطاق بالتقدم، حيث تصور كثيرون مستقبلاً من شأن التقدم التكنولوجي فيه أن يحل المشاكل الدائمة للوجود البشري.

ومع ذلك، فإن الأحداث الكارثية التي شهدتها الحرب العالمية الأولى، والتي أعقبتها الاضطرابات الاقتصادية في عشرينيات القرن العشرين ومن ثم الحرب العالمية الثانية التي أعقبت الأولى، حطمت هذه التوقعات المتفائلة والساذجة للبشرية. وأصبحت خيبة الأمل في التقدم موضوعاً رئيسياً في فترة ما بين الحربين العالميتين، حينها بدأ التشكيك في الإيمان الساذج بالتكنولوجيا والعلم باعتبارهما العلاج الشافي لمشاكل الإنسان. 

كتب هكسلي في ظل هذه الأحداث المضطربة، وأشبع روايته "عالم جديد شجاع" بشكوكه حول مسار الحضارة الغربية. لا تظهر روايته كنقد للاتجاهات الاجتماعية والسياسية المعاصرة فحسب، بل أيضاً كتعليق عميق على الحالة الإنسانية في مواجهة الهيمنة التكنولوجية. فمن خلال الجمع بين تفاؤل ما قبل الحرب العالمية الأولى والحقائق المروعة في وقته، استطاع هكسلي أن يضع كتاب روايته بعقل كقصة تحذيرية حول التجريد المحتمل من الإنسانية الذي قد ينشأ من احتضان التقدم التكنولوجي دون أخلاق.

دور الرواية في دولة خيالية، يصنَّف المواطنون فيها ضمن هيكل اجتماعي هرمي مبني على الذكاء، وفي عالم الرواية حيث الطفرات التكنولوجية المتقدمة في مجالات الإنجاب، التعلم في أثناء النوم، استخدام المخدرات، والتأثير النفسي، وكلها تستغلها السلطة لنحت وبلورة مجتمع طاعن في البؤس، لا يقف ضده غير بطل الرواية كفرد شجاع، يجد نفسه في واقع يضيع فيه الإنسان هويته، مع التقدم التكنولوجي.

رواية عالم جديد شجاع / مواقع التواصل- الصفحة الرسمية لمكتبة تنمية
رواية عالم جديد شجاع / مواقع التواصل- الصفحة الرسمية لمكتبة تنمية

إذ يتم تنظيم المجتمع بدقة في نظام طبقي، حيث يتم هندسة الأفراد وراثيًا وتكييفهم لأدوارهم. من فئة ألفا "Alphas" الذكية، المخصصة للقيادة والمهام المعقدة، إلى  إبسيلون "Epsilons" القوية جسدياً ولكن المحدودة فكرياً، تم تصميم كل فئة لتناسب احتياجات مجتمعية محددة. يعد هذا التقسيم الطبقي، المدعوم بتقنيات الإنجاب المتقدمة والتكييف، أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار المجتمعي. يستكشف هكسلي مخاطر النظام الذي يقضي على الفردية والتنوع تحت ستار الانسجام والكفاءة.

في هذا العالم، يتم التلاعب بالعمليات الطبيعية للولادة والشيخوخة والموت أو تجنبها، مما يؤدي إلى قطع الروابط الوجودية العميقة التي كانت ترتكز عليها المجتمعات البشرية تقليدياً. فخلال ديستوبيا هكسلي لا تحدد التكنولوجيا القدرات الجسدية والفكرية للأفراد فحسب، بل تشكل أيضاً رغباتهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم. إن الهندسة الدقيقة للحياة البشرية، من الرحم إلى القبر، تجسد الاهتمام الموضوعي للرواية بتآكل الذات والاستقلالية في مواجهة التدخل التكنولوجي.

نبوءات ألدوس هكسلي في "عالم جديد شجاع"

"عالم جديد شجاع" ترسم صورة لمجتمع لا تُمارَس فيه الهيمنة عبر القوة الصريحة، بل من خلال استراتيجيات معقدة من التأثير التكنولوجي والنفسي. في هذا المجتمع، تشكل تكنولوجيا الإنجاب، المتمثلة في مراكز التفريخ والتكييف، عموداً فقرياً يضمن تحديد الطبقة الاجتماعية لكل فرد منذ الولادة، مزوداً إياه بصفات وميول مصممة خصوصاً له. يُعزز هذا النظام من خلال استخدام التكييف النفسي، كالتنويم المغناطيسي، لغرس قيم الدولة وأعرافها في الأفراد خلال فترات نموهم.

وما كان خيالاً علمياً في الماضي، يمكن أن نقول إنه أصبح واقعنا اليوم، فبيونج شول هان، الفيلسوف الألماني ذو الأصول الكورية، يعرض نقداً للمجتمع المعاصر في كتابه "السياسة النفسية: النيوليبرالية والتقنيات الجديدة للقوة". يصف هان مجتمعنا بأنه "مجتمع الإنجاز"، حيث تتحول آليات السيطرة والاستعباد إلى داخلية بدلاً من كونها خارجية. المؤسسات الانضباطية لم تعد تحتاج إلى الأوامر المقيدة مثل "لا تستطيع، ممنوع، ينبغي أن"، بل تم استبدالها بالتشجيع الذاتي مثل "تستطيع، يمكنك، لا يوجد مستحيل". وبهذا، تحل محل السجون والمؤسسات القمعية، مرافق كصالات اللياقة البدنية، المكاتب العصرية، البنوك، المطارات، وعيادات الصحة النفسية، وغيرها من المؤسسات التي توجهنا نحو "حياة أفضل".

تقدم الرواية أيضاً السوما، وهو عقار مهلوس يقمع المشاعر غير السارة ويعزز الشعور بالرضا بين السكان. ويضمن هذا التدخل الدوائي، إلى جانب احتكار الدولة للمعلومات والترفيه، غياب المعارضة وعدم الرضا فعلياً. من خلال نسج تقنيات التحكم هذه معاً، يرسم هكسلي صورة مروعة لمجتمع يتم فيه التضحية بالحرية على مذبح الكفاءة والاستقرار.

من الأمور المركزية أيضاً في الرواية، تصوير المجتمع الذي حقق ظاهرياً السعادة العالمية، التي يكشف عنها هكسلي؛ لكون هذه السعادة ليست إلا مجرد قناع سطحي صنعته الدولة لتسكين الأفراد، فنرى الرواية تنتقد بعمقٍ السعادة التي تأتي على حساب فقدان الروابط الإنسانية العميقة، في عالم يُنظر فيه إلى الأسرة والحب والولاء كمفاهيم متجاوزة لعصرها ولا مكان لها. من خلال قمع الرغبات الفردية وتجانس التجارب بواسطة الأدوات التكنولوجية والدوائية، تُظهر الرواية ببراعةٍ التناقض القائم بين المثالية المعلنة لهذا المجتمع والواقع المظلم الذي يخفيه.

في رؤية هكسلي، يتم التلاعب بالسعي وراء السعادة لدعم النظام الاجتماعي، مع خنق التعبيرات الحقيقية عن المشاعر الإنسانية والإبداع أو إعادة توجيهها نحو مساعٍ تافهة. وبالنظر إلى تشويه سمعة الفن والأدب اليوم، وتحويلهما إلى مجرد أدوات للدعاية الحكومية، يؤكد بشكل أكبرَ تحذير الرواية من مخاطر المجتمع الذي يقدر التوافق والراحة فوق كل شيء آخر. من خلال هذا النقد، يتحدى كتاب "عالم جديد شجاع" القارئ لإعادة النظر في العالم حوله والمعنى الحقيقي في الحياة  وما هو تعريف السعادة الحقيقية، ويتساءل عما إذا كانت الحياة الخالية من النضال والألم والعاطفة الحقيقية يمكن أن تكون مرضية بالفعل.

تتخلل القوس السردية لرواية "عالم جديد شجاع" المسار المأساوي للبطل، الذي تجسد مواجهته مع مجتمع العالم الجديد الصراع المركزي في الرواية بين الفرد والجماعة. نشأت قيم البطل وحساسياته خارج حدود الدولة البائسة، وتختلف بشكل ملحوظ عن تلك الخاصة بالمواطنين المُهندسيين، مما يجعله رمزاً للمقاومة ضد قوى التكنولوجيا المتجانسة.

إن كفاحه لتأكيد هويته واستقلاليته في عالم يتطلب الامتثال، يسلط الضوء على الانشغال الموضوعي للرواية بتآكل النبل والذاتية في مواجهة الضغوط المجتمعية والتكنولوجية. فمن خلال قصة جون، يعبر كتاب "عالم جديد شجاع" عن نقد عميق للحضارة التي قايضت إنسانيتها من أجل التفوق التكنولوجي، محذراً من مخاطر المستقبل، حيث تقاس قيمة الفرد فقط من خلال المنفعة للدولة.

يكمن إرث رواية "عالم جديد شجاع" الدائم في قدرتها على إثارة مثل هذه الأفكار، وتقديم قصة تحذيرية حول إمكانية أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى تقويض جوهر ما يعنيه أن تكون إنساناً.

في مواجهة التقنيات سريعة التطور، يتحدانا هكسلي للتساؤل حول اتجاه حضارتنا. هل نتحرك نحو مستقبل يعزز كرامة الإنسان وحريته، أم أننا، مثل مجتمعه المتخيل، ننجرف إلى عالم حيث يتم شراء الراحة التكنولوجية على حساب إنسانيتنا؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
مظفر حبيبوليف
كاتب وطالب دكتوراة في الأدب من أوزبكستان
تحميل المزيد