كيف يعيد الإعلام الحر تشكيل المواجهة مع الاحتلال؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/04 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/04 الساعة 11:39 بتوقيت غرينتش
سقط عشرات الصحفيين الفلسطينيين في الحروب الإسرائيلية بقطاع غزة ٠ shutterstock

عندما يتعلق الأمر بالسياسة والإعلام، تتداخل الحقيقة والسلطة في مشهد يتخذ من التضليل وسيلة للسيطرة. مؤخراً، بعد موافقة "الكنيست" الإسرائيلي بأغلبية ساحقة على ما أطلق عليه "قانون الجزيرة"، الذي يمنح لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي صلاحية حظر قناة الجزيرة عن البث، معتبراً إياها تهديداً لأمن الدولة؛ يطرح هذا القرار تساؤلات حول حق الجمهور في الوصول إلى معلومات حقيقية دون تدخل السلطات.

ويبدو أن هذا القرار يعكس مخاوف نتنياهو من بصمات الحقيقة التي تكتشفها عدسة الإعلام الحر، ما يثير تساؤلات حول أصل ومفهوم الديمقراطية وحرية الصحافة. فهل يتخوف نتنياهو فعلاً من الحقيقة العارية التي ينقلها مراسلو الإعلام الحر، أم أن هناك دوافع سياسية أخرى تقف وراء هذا القرار؟

لقد كانت قناة الجزيرة من المنصات الأولى في العالم التي جعلت من العدوان الإسرائيلي على غزة الموضوع الأول لتغطيتها الإخبارية، حيث قامت بتغطية شاملة للأحداث في منطقة الصراع وفي العديد من المناسبات، كشفت عن مختلف الجوانب والأبعاد البشعة للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.

فمن خلال تقاريرها وتحقيقاتها، نجحت في تسليط الضوء على الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها الاحتلال بدم بارد، والتي أثارت الجدل والاستنكار العالمي. ومن خلال تعرية هذه الحقائق البشعة، ساهمت في توعية الجمهور العالمي بما يحدث في غزة من وحشية، ما ساهم في جعل القضية الفلسطينية محط اهتمام الكثيرين.

صارت القضية الفلسطينية آخر القضايا العادلة التي تُلهِم نضالات الكثيرين في مختلف أنحاء العالم، وخلال العصر الرقمي الحالي، صار الفضاء الرقمي مساحة أخرى للنضال، فباتت القضية الفلسطينية فيه محط اهتمام الكثيرين حول العالم، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي مكاناً لتبادل الآراء والمعلومات بشأنها، يعبر الناس عن تضامنهم ودعمهم للقضية الفلسطينية ويشاركون في نضالها من خلال مختلف الوسائل الرقمية المتاحة. فهذا التفاعل الرقمي ساهم في توعية المجتمع العالمي حول الظلم والاضطهاد الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، وعزز الدعوات لتحقيق العدالة والسلام في المنطقة.

في ظل الانحياز والازدواجية التي تسيطر على الإعلام الغربي، صارت منصات إعلامية عربية كثيرة، ومنها بالطبع الجزيرة، تساهم في زيادة الوعي العام تجاه القضية الفلسطينية، فصرنا نرى الأفراد من مختلف الأديان والجنسيات يتضامنون مع أهل غزة ويعبرون عن كرههم للاحتلال الإسرائيلي الظالم. وبرز العديد من الناشطات والناشطين على منصات السوشيال ميديا من جنسيات مختلفة وخاصة الغربية وكرسوا محتوياتهم لنشر الوعي والتعريف بالقضية الفلسطينية والتضامن مع أهل غزة، فشفافية الإعلام لبعض المنصات العربية واحترافيتها جعلت من المتابع شاهداً على تفاصيل الجريمة، وذلك بفضل أبطال الإعلام وشهداء الحقيقة، الذين عملوا ضمن قناة الجزيرة وغيرها من منصات عربية حرة عديدة، حيث استشهد العديد منهم بينما كانوا يقدمون رسالتهم بكل جدية وإخلاص، دفاعاً عن وطنهم وكرامتهم، حيث ذكر موقع "أكسيوس" الأمريكي، أن معظم الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال الحرب، لقوا حتفهم بسبب قصف إسرائيلي متعمد، حيث كانوا يواجهون خطر الموت في كل لحظة، من أجل توثيق الحقيقة ونقلها للعالم بكل صدق ومصداقية.

لقد شهدوا على الأحداث الكارثية والمأساوية التي تعيشها غزة، وكانوا صوتاً للمقهورين وعيناً ترصد كل جريمة، حيث استشهد المصور الصحفي سامر أبو دقة الذي كانت وفاته ليست سوى استمرار لعملية القتل والظلم الممنهج الذي يمارسه الاحتلال بحق الصحفيين والمدنيين الفلسطينيين. 

ظل هؤلاء الصحفيين كالشوكة في حلق الاحتلال، فحتى وهم في وجه الموت، ظلت رسالتهم حية، وصوتهم مرتفعاً، مدافعين عن حقوق شعبهم، كاشفين الجرائم والبشاعة التي ترتكب بحقه. فما كان من الاحتلال إلا أن قتلهم، فأصبحت عائلة مثل عائلة الصحفي وائل الدحدوح، وغيرها من عائلات الصحفيين الشهداء، رمزاً للوفاء والتضحية، وظلت ماضية في طريق النضال من أجل العدالة والحرية. لقد صاروا رمزاً للشجاعة والإرادة في وجه الظلم والقمع، ليس لنا فقط بل للعالم أجمع، فلن ينسى أحد تضحياتهم، فقد حفروا أسماءهم في ذاكرة الضمائر الحرة بصمودهم الأسطوري وتضحياتهم من أجل الحق والحرية.

وائل الدحدوح/ الأناضول

فالصورة التي تلتقطها عدسة كاميرا صحفي فلسطيني شجاع تمثل قوة لا يمكن السيطرة عليها، ونتنياهو يعلم جيداً أن الحقيقة الموثقة تعكس بشاعة جرائمه، ما يثير الرعب في نفسه. لذلك، يقرر إخفاء أي عدسة للإعلام الحر ليطفئ النور عن أعين العالم. لكن ضوء الحقيقة يصبح أوضح في الظلام الحالك الذي يخلفه إجرامه. فعندما يلجأ الظالم إلى القوى لستر حقائق مزعجة، يعلن بذلك عن فشله في مواجهة هذه الحقائق. ليس أمامه سوى الفرار إلى الظلام، ما يبرهن على قسوة وفظاعة أفعاله.

لكن ما لا يريد أن يدركه الاحتلال أن الحقيقة لا تختفي بسهولة. بصمات الحقيقة باقية في أعماق الذاكرة، وستظل تلمع في الظلام حتى يأتي النور ليكشف كل شيء. ومهما حاول نتنياهو لن يفلح في أن يمحو الحقيقة وبصمتها، بل سيزيد من رونقها وتأكيد وضوحها. فاليوم وفي ظل كل تلك الإمكانيات الرقمية، بات من الصعب أو من شبه المستحيل لللاحتلال الإسرائيلي أو غيره أن يختبئ وراء الأكاذيب والتضليل. فالعالم يراقب، ويستمع، ويشعر بمعاناة كل فرد مظلوم، بغض النظر عن جنسيته أو ديانته.

واليوم أكثر من أي يوم مضى، يبدو أن رحلة الفضح الدولي لا تعرف الرحمة، ولا تتوقف عند حدود الخوف أو التردد. وصارت رحلة لاستعادة العدالة والكرامة، ولإضاءة الضوء على أولئك الذين يحاولون تمزيق نسيج الحق والإنسانية.

تتلاشى أسرار القمع والظلم، يوماً بعد يوم، أمام أعين العالم. إنها رحلة الكشف الدولية التي تقودها بعض وسائل الإعلام الحرة، تكشف الجرائم وتسجل الأحداث، نحو إسرائيل التي تجاوزت حدود القهر والانتهاك. في عصر التكنولوجيا الرقمية، لم تعد الحقائق محصورة ضمن جدران أو حدود. إنها تتجاوز كل الحواجز، معلنةً للعالم بأصواتٍ وصور، حقيقة مريرة تدمي القلوب وتهز الضمائر.

كيف يشكل الإعلام الحر ضغطاً على الاحتلال؟ 

تصاعُد الدعم العالمي للقضية الفلسطينية وزيادة الانتقادات لسياسات الاحتلال الإسرائيلي قد أدى إلى زيادة الضغط الدولي على إسرائيل لتغيير سياستها. فمع أكوام الوثائق والصور، تتلاشى أسرار القمع والظلم يوماً بعد يوم أمام أعين العالم. فرحلة الفضح الدولي التي تقودها وسائل الإعلام الحرة اليوم، تعمل على توثيق كل شيء وتسجل كل الأحداث، بمسؤولية كبيرة، فلم يعد نقلها للحقيقة يقتصر على نقل الأحداث فحسب، بل عملت على توثيق كل لحظة مريرة وكل مشهد مؤلم، لتجسد بشكل حي وواقعي معاناة الشعب الفلسطيني، وتكشف جرائم الاحتلال بكل جلاء أمام العالم.

من غزة المحاصرة، حيث يعيش الأطفال في ظلام الحصار وقصف الطائرات، إلى الضفة الغربية المحتلة، حيث يُجبر الفلسطينيون على العيش تحت قوانين عنصرية، ترسم إسرائيل لوحة من الظلم والاستبداد، منقوشه بآهات المظلومين ودموع الأبرياء.

كل الحقائق الموثقة اليوم تجعل نتنياهو يواجه تحديات أكبر في السيطرة على الصورة الإعلامية الدولية للاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، بالإضافة إلى تزايد الانتقادات داخل إسرائيل نتيجة للفشل في تحقيق التقدم في عملية الحرب واستعادة الأسرى، ما يضعف موقف نتنياهو وحكومته، ويضطرهم لمواجهة تحديات داخلية أكبر. بالإضافة لذلك، يساهم نجاح القضية الفلسطينية إعلامياً في التأثير على التحالفات الإقليمية لإسرائيل ويجعلها أكثر تعقيداً، ما يشكل ضغطاً إضافياً على مستقبل الاحتلال في المنطقة.

الضغط الدولي الذي تتعرض له إسرائيل ليس مجرد توجيه أصابع الاتهام، بل هو نتيجة طبيعية لتصرفاتها وسياساتها العنصرية والهمجية، ولا أعتقد أن شعلة القضية الفلسطينية ستنطفئ بعد الآن حتى تحقيق العدالة وإعادة الكرامة للشعب الفلسطيني المنسي. 

"قانون الجزيرة" يمثل نموذجاً للتشريعات والسياسات الاستعمارية التي تبنتها القوى الاستعمارية والقمعية عبر الأزمنة والأمكنة في محاولة لقمع الحقيقة. ومع ذلك، تبرهن الصحافة الحرة والجريئة على قدرتها الفائقة على مواجهة هذه التحديات بصلابة، مؤكدة على عجز أي قوة قمعية عن إسكات صوت الحق. بثبات ودون خوف أو تردد، تخترق الصحافة الحرة جدران الصمت، تتحدى قيود المحتلين ومحاولاتهم المستميتة للتضليل، معلنة بكل شجاعة عن زيف قدرتهم على كسر إرادة الإعلام الحر.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أمال السعودي
صحفية تونسية
تحميل المزيد