منّ الله على المسلمين بتفضيل بعض الأوقات على غيرها، وبدعوتهم فيها للتقرّب منه والتزلّف إليه، تهذيباً لنفوسهم وتطهيراً لقلوبهم؛ فينال أعظم غاية، وهي رضا الله والفوز بمحبته، ولهذه الغاية العظمى جعل الله في كل وقت فرصةً لزيادة تقرب عباده إليه، فآخر الليل هو خير اليوم، ويوم الجمعة خير أيام الأسبوع، وفي السنة جعل شهر رمضان خير الشهور؛ فمن صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، وفي رمضان جعل خيره آخره، وجعل فيه خير الليالي على الإطلاق وهي ليلة القدر، هذه الليلة الفريدة هي أفضل الليالي في العام كله على الإطلاق، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 1 – 5].
أنزل القرآن الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها "مباركة"، وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة، أن الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي ليلة القدر.
فسماها الله تعالى ليلة القدر؛ وذلك لعظيم قدرها وجلالة مكانتها عند الله -جل وعلا-، ولكثرة ما فيها من غفران للذنوب وستر للعيوب، فهي ليلة المغفرة، كما في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". [البخاري (۱۹۱۰)].
وقال تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3]، أي إن العبادة في هذه الليلة، خير من العبادة مدة ألف شهر، ويحصل ذلك بمضاعفة أجر الأعمال الصالحات، واستجابة الدعوات، وتنامي الثواب والصدقات، وسائر المنافع الدينية والدنيوية.
وإن الملائكة ينزلون في هذه الليلة إلى الأرض، وهذا يدل على شرف هذه الليلة، فكل ما فيها خير، وإنها تبقى حتى يطلع الفجر، فتبقى أبواب الرحمة مفتوحة طوال هذه الليلة، معمورة بنزول الملائكة، محفوفة بالخير والسلامة، حتى يطلع الفجر.
وهي سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها، وفيها تغفر الذنوب، وتُقال العثرات ويعفى عن الزلات، وتستجاب الدعوات لمن قام في تلك الليلة مؤمناً بربه واثقاً من عطاياه، محتسباً للأجر والثواب، مخلصاً النية، مقتدياً بالمصطفى ﷺ.
ولقد أخفى الله ليلة القدر ضمن ليالي شهر رمضان، وبيّن الرسول ﷺ أن التماسها في العشر الأواخر، وأكد على التماسها في آحاد هذه الليالي، ليجتهد المؤمن في العبادة، ويضبط النفس على الطاعات طوال ليالي شهر رمضان من جهة، ثم ليضاعف من اجتهاده في العشر الأواخر منه، ثم ليزيد من حرصه وحسن عبادته في آحاد ليالي هذه العشر، رغبةً في أن يظفر بمصادفتها واغتنام خيراتها، ولو لم يشعر بأماراتها، وقد وردت الكثير من الأحاديث والروايات بخصوص توقيتها، ومنها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُجاوِر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ، ويقول: "تَحرَّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ". [رواه البخاري ومسلم]. كما نقلت عائشة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "تَحرَّوا لَيلةَ القَدْرِ في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ". [رواه البخاري]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنه قال: "تَحرَّوا ليلَةَ القَدْرِ في السَّبْعِ الأواخِرِ". [رواه مسلم]. وقال ﷺ: "ليلة القدر من كان متحريها فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين". [رواه أحمد].
وأياً كان ميعادها فإن ليلة القدر ليلة شريفة عظيمة، فينبغي على المسلم أن يحرص على التماسها، وأن يجتهد في ليالي العشر كلها، فمن وافقها فقد غنم فضلاً كبيراً، فلنحرص على التماسها، ولنكثر من العبادة، ونضاعف الطاعة، عسى أن يغفر الله لنا ما تقدم من الذنوب، ونفوز بالرضا والجنة، وذلك هو أعظم مطلوب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.