كما هو متوقع، دفعت النتائج الصادمة للانتخابات المحلية التركية، التي خسرها حزب العدالة والتنمية لأول مرة، للبحث في الأسباب والعوامل التي ساهمت بها. وإذا كان ثمة شبه إجماع على أسباب مثل إدارة الملف الاقتصادي وتراجع أداء الحزب الحاكم وصعود حزب الرفاه مجدداً ومنظومة التحالفات بين الأحزاب وغير ذلك، إلا أن ثمة عاملاً أثار الجدل أكثر من غيره، وهو الموقف من العدوان على غزة.
لسنا هنا في مساحة لنقاش وتقييم الموقف التركي الرسمي من العدوان، فقد سبق أن فعلنا في مقالات سابقة، كما أن معظم من يتناول الأمر يتفق على أنه أقل من الممكن والمطلوب، مع تفاوت ملحوظ في توصيف الأمر ودوافعه ومدى تقبله (أو تبريره).
ما يهمنا في هذه السطور هو تقييم مدى مساهمة موقف الحكومة من العدوان على غزة على نتائج الانتخابات، أو بكلمات أخرى إلى أي مدى كان اعتراض بعض الشرائح المجتمعية، وفي مقدمتها المحافظون والإسلاميون من أنصار الحزب الحاكم، جزءاً من التصويت العقابي أو الاحتجاجي الذي حصل في الانتخابات الأخيرة؟
ثمة من يرى أن هذا كان أحد الأسباب الدافعة للتصويت العقابي الأخير، وكاتب هذه السطور منهم، لا سيما أن الأمر عليه الكثير من الشواهد، فضلاً عن أنه العامل الوحيد المستجد بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مايو الماضي، والتي كانت نتائجها مغايرة تماماً، حيث أسندت للرئيس أردوغان عهدة رئاسية جديدة، وأكدت سيطرة تحالف الجمهور على أغلبية البرلمان.
في المقابل، ثمة من يرى أن هناك مبالغة كبيرة وغير منطقية في هذا الطرح، وأن الاعتراضات على موقف الحكومة من العدوان على غزة كانت فردية وغير مؤثرة في نتائج الانتخابات، بل إن بعض التحليلات تجنبت ذكرها ضمن عوامل الهزيمة وأسبابها.
ورغم أنه ليس ثمة أداة عملية يمكنها قياس أثر كل عامل من العوامل منفرداً بدقة، إلا أننا نملك من القرائن والمؤشرات ما يساعدنا على تقدير الأثر بشكل تقريبي، أو على أقل تقدير البتِّ بهل كان قوي الحضور أم ضعيفه.
اللافت أن معظم من قلل من أثر غزة في نتائج الانتخابات اعتمد على منهجية تحليل غير سليمة، وهي أن موقف حزب الشعب الجمهوري أسوأ بكثير ولا يقارن بموقف العدالة والتنمية، فقد عدَّ رئيسه أوزغور أوزال حركة حماس منظمة إرهابية قبل أن يتنصل من هذا التصريح، مدعياً أنه تحدث عن عملية السابع من أكتوبر كعمل إرهابي وليس عن حماس كمنظمة.
الخطأ في هذه المنهجية يقع في شقّين
الأول: أن من انتهجوا التصويت الاحتجاجي أو العقابي مع العدالة والتنمية، ومن بينهم من كان سببُهم غزة، لم يصوتوا للشعب الجمهوري. الأرقام التفصيلية والمقارنة مع الانتخابات السابقة تقول إن المعظم قد قاطع الانتخابات بالكامل والبعض اختار حزب الرفاه مجدداً لأسباب مفهومة.
والثاني: أن فكرة التصويت الاحتجاجي أو العقابي لا تقوم على معاقبة "الأسوأ" واختيار "الأفضل" تجاه ملف أو قضية ما، وإنما إيصال رسالة "لمن يُعوّل عليه" ويُنتظر منه موقف ما ولم يقدم عليه. ومن البديهي أن التصويت العقابي ضد العدالة والتنمية كان سيفيد الشعب الجمهوري بدون التصويت للأخير، وهذا أمر يدركه معظم من انتهج هذا الخيار، بل إن هذا هو معنى التصويت الاحتجاجي بحد ذاته.
وللتوضيح أكثر، فنفس المنطق يمكن تطبيقه على عامل الاقتصاد، فكونه في مقدمة أسباب التصويت الاحتجاجي لا يعني أن الشارع التركي يؤمن أن المعارضة سيكون أداؤها أفضل فيه، وإلا لكان اختارها لرئاسة البرلمان قبل أشهر، إنما أراد إيصال رسالة بعدم الرضا وضرورة التصويب. كما أن نفس هذا التوجه رأيناه في الولايات المتحدة، حيث يتجه الكثيرون، وفي مقدمتهم المسلمون في البلاد، لـ"عقاب" بايدن في الانتخابات الرئاسية رغم أنهم يدركون أن الجمهوريين وخصوصاً ترمب سيكونون أسوأ منه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فهم هنا لا يقولون إن ترمب أفضل ولكنهم يرون أن رسالة الاحتجاج والعقاب ينبغي أن تصل حتى ولو استفاد منها "الأسوأ".
والمتابع للشأن التركي يدرك أنها ليست المرة الأولى التي يذهب فيها الناخبون لتصويت احتجاجي، ولعل المثال الأبرز عليها انتخابات 1989 المحلية التي تراجع فيها حزب الوطن الأم الحاكم (بقيادة تورغوت أوزال) للمرتبة الثالثة وفاز فيها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الشعبي (الحزب الممثل لتيار الشعب الجمهوري في ذلك الوقت) حديث التأسيس بفعل التصويت الاحتجاجي.
بل إن "رسائل الصندوق" هذه ليست الأولى مع أردوغان والعدالة والتنمية، ولكنها كانت الأقسى والأكثر وضوحاً وأثراً، ويمكن العودة لتصريحات مشابهة للرئيس التركي بـ"فهم رسالة الصندوق والعمل بموجبها" في عدة استحقاقات انتخابية في العقد الأخير.
الإجابة على سؤال: لماذا الآن وفي هذه الانتخابات، بعد أن كان الشارع التركي أعاد انتخاب أردوغان رئيساً وجدد لتحالف الجمهور أغلبية البرلمان قبل 10 شهور فقط؟ هو أن هذه الانتخابات محلية تتعلق بالبلديات، وبالتالي فالتبعات السياسية لنتائجها ضئيلة جداً مقارنة بالانتخابات الرئاسية أو البرلمانية. بمعنى أن الناخبين أجّلوا تحويل اعتراضاتهم ومطالبهم لتصويت احتجاجي أو عقاب للعدالة والتنمية في الصندوق للانتخابات المحلية.
وقد اتخذ التصويت الاحتجاجي أو العقابي في هذه الانتخابات -كما سابقاتها- عدة أشكال، منها مقاطعة التصويت بالكامل، والاقتراع مع تعمد إبطال الصوت بكتابة شعارات أو رسائل سياسية، والتصويت لأحزاب سياسية أخرى. عملياً وبالأرقام، كانت المقاطعة الشكل الأبرز في الانتخابات الأخيرة، حيث تراجعت نسبة المشاركة فيها زهاء 7% وقريباً من 4.5 مليون ناخب عن انتخابات 2019 (نفس عدد المقترعين رغم أن عدد الناخبين ارتفع ما يقارب 4.4 مليون). وبالنظر إلى عدد الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب المختلفة يمكن القول إن أغلب المقاطعين كانوا من أنصار العدالة والتنمية من المحافظين (المهتمين بالقضية الفلسطينية)، وهو ما أكده تقييم الأخير للنتائج.
ساهم الموقف من غزة في هزيمة العدالة والتنمية
وأما إلغاء الصوت بشكل متعمد فعليه شواهد انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد كان الكثير منها مرتبطاً بالاحتجاج على الموقف من العدوان على غزة، ولا سيما موضوع التجارة المستمرة مع دولة الاحتلال، علماً أن إجمالي الأصوات الملغاة (غير المتعمدة والمتعمدة لأسباب مختلفة) زاد ما يقرب من نصف مليون صوت عن الانتخابات الأخيرة.
وأما التصويت لحزب آخر فكانت حصة الأسد منه لحزب الرفاه مجدداً الذي كان الحصان الأسود لهذه الانتخابات، حيث حلّ ثالثاً وفاز برئاسة بلدية محافظتين إحداهما مدينة كبرى. فيما لا تقول الأرقام بأن مقاطعي العدالة والتنمية صوتوا لصالح الشعب الجمهوري، فالزيادة في أصوات الأخير عن عام 2019 أقل من تراجع أصوات العدالة والتنمية بزهاء نصف مليون صوت، ويمكن تفسير معظمها بزيادة عدد الناخبين عن الانتخابات السابقة (4.4 مليون ناخب جديد)، وبدعم أنصار أحزاب أخرى له، ما يدحض مجدداً منطق رفض سردية التصويت العقابي بسبب غزة كما سلف ذكره.
وفي الخلاصة، فقد كانت غزة حاضرة في هذه الانتخابات، بدءاً من الحملات الانتخابية التي ركز خطابها عليها، ولا سيما في إسطنبول، ويكاد لم يخلُ خطاب للرئيس التركي في الحملة الانتخابية من الحديث عنها، مروراً بالإحالة عليها في بعض الأصوات الملغاة، ووصولاً لتأثيرها -مع عوامل أخرى- في النتائج. وقد أشار أردوغان في أول اجتماع لقيادة حزبه بعد الانتخابات للأمر حين قال في معرض ذكره لأسباب الهزيمة: "لم ننجح في صد الهجمات السياسية وإقناع بعض الأوساط بخصوص قضايا قدمنا فيها ما نستطيعه ودفعنا بسبب ذلك ثمناً، مثل أزمة غزة".
يبقى أن نقول إن رسائل الصندوق قد وصلت كما أشار الرئيس التركي في خطابه بعد صدور النتائج وكذلك في اجتماع قيادة الحزب، ما يرجى معه استخلاص الدروس والعبر ومراجعة المواقف وتصويب ما أمكن منها في المدى المنظور، ولا سيما فيما يتعلق بحرب الإبادة على غزة، موضوع المقال الحالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.