الحرب على غزة مستمرة وستدخل شهرها السابع، على الرغم من صدور قرار من مجلس الأمن الدولي في الخامس والعشرين من 25 مارس/آذار 2024، تحت الرقم 2728، وذلك لأن كلاً من واشنطن وتل أبيب اعتبراه غير ملزم، هذا الموقف والتفسير يذكر الكثيرين حول العالم بمقولة الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ عن أن السلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية.
مع تباين وتضارب التقارير والتحليلات بشأن مجريات وتوقعات المواجهة العسكرية القائمة في قطاع غزة وتأثيراتها الممتدة على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية والقسم الجنوبي من البحر الأحمر ومخاطر تحوله إلى مواجهة إقليمية، تتشكل أمام أعيننا صورة لتقسيم العالم إلى معسكرين متعارضين بطريقة لم تشهدها الساحة الدولية منذ انتهاء الحرب الباردة في أوائل التسعينيات من القرن العشرين.
لا أعتقد أن هناك من ينكر إلا قلة أن حرب غزة سمحت بعملية تفجير وتنفيس لضغط متراكم لدى الجزء الأكبر من دول وسكان الأرض "أو ما يوصف بدول الجنوب" التي عانت على مدى أكثر من ثلاثة عقود من هيمنة "الغرب" وفرض قوته وإرادته على الآخرين في كل المجالات مستغلاً قدراته العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والسياسية.
فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات وتفكك حركة عدم الانحياز، التي استطاعت أن تفرض نفسها لفترة بعيدة بفضل التوازن بين الأنظمة الشيوعية والرأسمالية، تزايدت الضغوط من القوى الدولية المهيمنة على الساحة لإجبار باقي الدول على تحديد مواقفها بشكل واضح وسريع تحت التهديد بالعقوبات، في سبيل إقامة نظام عالمي جديد يختلف عن النظام أحادي القطب. هذا يعيد إلى الذهن تصريح الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، بأن "من ليس معنا، فهو ضدنا".
في مقال رائع نشره والدن بيلو الشهر الماضي مارس/آذار 2024 ، قال الرئيس المشارك لمجلس "التركيز على الجنوب العالمي" وأستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة ولاية نيويورك، يتم التطرق إلى موضوع معقد وشائك يتمثل في الحروب الثلاث الكبرى التي يشهدها العالم اليوم وكيف تؤثر هذه الحروب على البنية العالمية، متناولاً بذلك كيفية تقاطع الأحداث المحلية مع الإقليمية والدولية، مؤكداً على الحاجة الماسة لتحقيق السلام العالمي.
حرب غزة.. تُنهي هيمنة القطب الواحد وتشكل عالماً جديداً
يشير بيلو في تحليله العميق إلى الحرب في غزة كمثال على التداخل المعقد بين السياسات الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية ومساعي الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العالمية. يوضح بيلو كيف أن هذه الصراعات لا تقتصر على الجوانب الجيوسياسية فحسب، بل تتجاوزها لتشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي تؤثر على النظام العالمي برمته.
كذلك، يتناول الحرب في أوكرانيا، والتي اندلعت بسبب رغبة واشنطن في توسيع نطاق حلف الناتو ليشمل دول الاتحاد السوفييتي السابق. يسلط الضوء على الطبيعة الدامية لهذا الصراع والتكاليف البشرية والاقتصادية الهائلة التي يتكبدها الجانبان.
أما بخصوص بحر الصين الجنوبي، فيعرج بيلو على الصراع الجيواقتصادي والعسكري الناشب بين الولايات المتحدة والصين، والذي يتجلى في النزاعات على الأراضي والموارد الطبيعية. يبرز كيف أن هذه الصراعات تحمل بذور توتر عالمي أوسع، قد يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار.
في ختام تحليله، يقدم بيلو تفسيراً شاملاً يربط بين السبب الرئيسي لعدم الاستقرار العالمي الحالي والتداخل بين المحلي والعالمي، والجغرافيا السياسية والاقتصاد الجغرافي، والإمبراطورية والرأسمالية. يشدد على أن فهم هذه التداخلات ضروري لمن يسعون لتحقيق السلام والاستقرار العالميين.
فاليوم قد برزت أصداء وتأثيرات الحروب الجارية على النظام العالمي بشكل لا يمكن تجاهله. في نفس السياق، وفي شهر مارس/آذار 2024 أيضاً، خلال فعاليات منتدى China Development Forum ببكين، ألقى الخبير الأمريكي جيفري ساكس، البروفيسور بجامعة كولومبيا والاقتصادي المعروف، بعض التصريحات الجريئة التي تستحق التأمل والنقاش. قال ساكس إن الولايات المتحدة الأمريكية، بعقليتها الحالية، تظن خطأً أن لديها القدرة على توجيه دفة العالم وإدارة شؤونه، مما يعكس نهجاً خطيراً يسهم في توليد التوتر في أرجاء المعمورة.
وأكد ساكس على ضرورة إعادة تشكيل نظرة واشنطن إلى العالم؛ بأن تتبنى مفهوم التعاون مع القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا والصين في إطار نظام عالمي متعدد الأقطاب. إذ يرى أن هذا النهج ليس فقط يمهد الطريق لعصر جديد من التعاون السلمي، ولكنه أيضاً يعالج التوترات التجارية والسياسية الحالية التي تهدد بتعميق الشرخ بين القوى العظمى.
فبالنظر إلى الحروب الحالية، والتي تترافق مع التوترات بين الولايات المتحدة والصين، لا نرى إلا محاولات واشنطن للحفاظ على هيمنتها الأحادية، مما يعقد ويزيد من حجم التحديات التي يواجهها النظام العالمي الحالي. فهذه الأساليب، كما يشير ساكس، لا تؤدي إلا إلى زيادة التوتر وتعقيد المشهد الدولي، مما يعرقل فرص التقدم والتنمية.
من الضروري النظر إلى الأمور بواقعية واستيعاب أن العالم اليوم مختلف عما كان عليه قبل عقود. النزاعات الإقليمية، فشلل المؤسسات الدولية، وتواطؤ القوى الغربية في حرب إبادة على غزة، يدفع العالم ودول الجنوب بالأخص إلى ضرورة الحركة والتفكير في كيفية إدارة العلاقات الدولية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.