أرى في عيونِ الحُسَينِ عيوني ** أرى في عيوني عيونَ الحُسَينْ
لقد تركوا ابنَ قلبي ذبيحاً ** يسدُّ الرّكامُ بهِ المَشْرِقَيْنْ
وأحملُ فوقَ انكساري انكساراً ** ويصرخُ ظَهْرٌ على خنجرَينْ
تُقاسمني وجعاً يا عظيماً ** ويحملنا دَمُنَا في يَدَيْنْ
لقد تركونا نئنُّ فُرادى ** ويبكي بنا شَجَرُ الرَافِدَينْ
بهذه الأبيات رثت شاعرة من غزة "آلاء القطراوي" أطفالها الأربعة الذي قتلهم الاحتلال بعد أن حاصرهم ومنعهم من الخروج، فبقيت أجسادهم تحت الأنقاض لأكثر من 3 أشهر إلى اليوم.
إن هذه الأبيات ليست مخيطة بالألم والقهر فقط، بل هي حروف منسوجة بقافيةٍ منتزعة من صدور جميعِ أمهات غزة، قافية أولها فقدٌ وآخرها فقد، فقد أعمق من حزن يعقوب على فراق يوسف. فقد عاد يوسف إلى حضن أبيه، لكن آلاء لن تعانق أوركيدا، ويامن، وكرمل، وكنان مرة أخرى، فقد حال بين صدرها وأجساد أولادها ركام 3 طوابق أسمنتية لبيت قصفة الاحتلال الإسرائيلي في خان يونس، بمنطقة السطر الشرقي، بلا أي إنذار. فتقف آلاء عاجزة عن الوصول إلى أنقاض منزلها لتوديع أطفالها الوداع الأخير.
هذه السطور لم تُكتب بدافع الفقدان العادي أو الموت المحتوم الذي ينتظر كل البشرية؛ بل نبعت من شريان حزن غائر لا يُستكشف عمقه، حزن يُعيد نفسه كلما حاولت الذاكرة أن تنسى، ترفض التصديق كيف أن طفلتها "أوركيدا" باتت خصلات شعرها مدفونة تحت أنقاض منزل مؤلف من 3 طبقات من الإسمنت، وكيف أن "يامن"، الابن البكر الجميل، احتضنه التراب بدلاً من أن يُدفن جسده كاملاً مبتسماً في قبر محاط بملائكة الجنة ورحمة الرب الساطعة.
قلب آلاء كان يوماً ما جنة على الأرض، لكن غُربة الفقدان حوّلته إلى خَرابٍ لا تَصلحُ به الأنفاس. آلاء، التي أنجبت 4 أطفال عبر عمليات قيصرية، بات خيط العمليات الرفيع على جسدها لا يُذكرها بألم الولادة، بل يصرخ في وجهها في كل لحظة، مُذكراً إياها بأنها أنجبت ولداً وبنتاً وتوأماً، وبقيت وحدها.
شعراء من غزّة.. قصائد لا تقع وتخاذل لا ينتهي
كانت هذه أبجدية الأم الغزية، فماذا عن قصيدة الفتاة العزباء التي كان يُمكن أن تكون زفافها في سماء غزة بلا حصار؟
فيما انبعثت هذه الأشعار من أعماق آلاء القطراوي، إحدى أمهات غزة التي تجرعت الألم الذي قد لا يجد له متسعاً في هذا العالم، انبعثت كلمات مخيطة بالألم أيضاً من الشاعرة الفلسطينية والشهيدة هبة أبو ندى، ابنة خان يونس، التي اغتالتها يد الاحتلال الغاشمة وألقت بها وأسرتها تحت أنقاض منزلهم، كما لو أن الاحتلال ببشاعته والعالم بصمته مصر أن ينوع الآلام في قلوب أهل غزة.
هبة أبو ندى، في لحظة من اللحظات، عبّرت عن هذا الألم بكلمات تتردد صداها في الأرواح:
"يا وحدنا
ربح الجميع حروبهم
وتُرِكتَ أنت أمام وحدك عارياً
لا شعر، يا درويش
سوف يعيد ما خسر الوحيد وما فقد
يا وحدنا
هذا زمان جاهلي آخر
لُعِن الذي في الحرب فرقنا به
وعلى جنازتك اتحد
يا وحدنا
الأرض سوق حرة
وبلادك الكبرى مزاد معتمد
يا وحدنا
هو زمان جاهلي
لن يساندنا أحد"
هبة، شاعرة من خان يونس، حملت شهادتين في الكيمياء العضوية وعلم التغذية، وكانت تتطلع لدراسة الدكتوراه، جمعت بين مهنة التعليم والإبداع الأدبي، فقد أبدعت في الشعر والرواية، وكُللت روايتها "لا أوكسجين للموتى" بجائزة الشارقة للإبداع العربى عام 2017.
ولدت في عام 1991، وقبل أن تصل إلى عامها الـ32، قتلها الاحتلال هي وأحلامها تحت أنقاض منزلها، في هجوم لم يبقِ ولم يذر. رغم هذا، ظل شعرها يعيش بيننا، خالداً في القلوب وفي كل مكان.
إن الأسى أعلى من صوت الحرب في قلوب الفاقدين وحنينهم، إلا أن وقع القصائد وإن كان محفوفاً بالألم والغضب ظل له وقع في النفس كبير، فنجد الكلمات التي فاض بها الصحفي الراحل، علي نسمان، ترسم صورة لأمة غزة، التي عانقت عبئاً ثقيلاً وواجهت تحديات جساماً، ففي رسالته التي أَلقاها وهو وَاقفٌ صَامدٌ وَخلفه صوتُ المدافع يقول:
هَذه غزة التي أَرادوا أَن يُسقطوها
بِالقرعِ على الطناجر
هذه غزة التي أقنعوا شَبابها أن تُهاجِر
هذه غزة التي لطالما شتمتها
وَفي الخُصومةِ كُنتَ فاجر
هذه غزة التي فضحتْ كُل منسقٍ
مُطبعٍ للقضيةِ والمشروع الوطنيّ يُتاجر
هذه غزة التي لو أَبادونا فيها لَقاتلت عنّا المقابر
بينما أجد نفسي اليوم أقف خَجلى أمام حروفي، خجلى لأن أحزانهم باتت قَصائدي، هم العنوان ونحن الغارقون في الهوامشِ، فهم الحركات ونحن السكون، خَجلى أَنا أَمام صمتٍ لا يَفتعلُ شيئاً بل ربما يَخون، فما فائدة البكاء وفي جوفي عدوٌ لَا يَفزع؟ تُعاديني بِكل مرةٍ أحسبُ أننا سنقوم معاً، وَلكنني بِالنهاية أُشاهد أمام عيني يداً تبقى حاملة للسلاحِ وأخرى تُطبعُ وتهدي العدو السلام؟
نقف عاجزين، بينما الاحتلال يسلب الربيع من وجوه الصغار ويغرس الأسى الطويل في قلوب الأمهات، ويطلق القهر على الرجال.
لا أدري متى سأهدي حروف السلام لذلك الحلم الغزي، متى سأزف فرحاً في البداية بدلاً من حزنٍ عميق ومطر يُقاوم، يقاوم هناك في غزة، في سمائها وبحرها وأرضها.
متى سأكتب قصائد تليق بغزة وأهلها عند الانتصار؟ متى تخرس الطائرات والصواريخ وأستمع لصوت العصافير؟ ليكتب أهل غزة وأنا شعراً ليس سياسياً!!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.