لم يمضِ أكثر من 10 أشهر على النصر الهام الذي أحرزه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في شهر مايو/أيار 2023، حتى مُني بهزيمة -ربما هي الأقسى- في تاريخ الحزب في الانتخابات البلدية التي جرت بالأمس، فعلاوةً على تعزز خسارته للدورة الثانية لرئاسة البلديات الكبرى إسطنبول وأنقرة وإزمير، وبفارق كبير عن مرشحي حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي بالبلاد، فقد الحزب رئاسة 15 بلدية، بل وحل ثانياً من حيث عدد الأصوات التي حازها الحزب على مستوى البلاد بفارق أكثر من مليون صوت عن حزب الشعب الجمهوري.
هذا التحول الكبير في السلوك التصويتي للناخبين الأتراك وفي هذه المدة الوجيزة يحتاج إلى دراسة متأنية، ولا يمكن حصره فقط في عوامل مباشرة مثل جودة اختيار المرشحين، أو مستوى الخدمات التي تقدمها البلديات تحت رئاسة هذا الحزب أو ذاك، إذ يمكن الزعم أن التصويت كان سياسياً بالأساس، يعبر عن موقف الناخبين من الأحزاب السياسية بشكل عام.
وبشكل مبدئي يمكن إرجاع هذه الهزيمة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية إلى عدة أسباب، أهمها -من وجهة نظري- سببان رئيسيان:
أولاً، فقدان حزب العدالة والتنمية لدعم قطاعات مؤثرة من داعميه، وهذا له مؤشران واضحان، أولهما تصويت الجمهور المحافظ لحزب الرفاه من جديد، بشكل فاجأ الجميع، بل ربما فاجأ الحزب نفسه، إذ حل الحزب ثالثاً، بنحو ثلاثة ملايين صوت، متفوقاً على حزب الحركة القومية الحليف الرئيسي لحزب العدالة والتنمية، وهي الأصوات التي كان من الطبيعي أن تذهب إلى تحالف الجمهور الحاكم، إذا ظل حزب الرفاه من جديد فيه، وكانت ستضمن تفوقه على حزب الشعوب الجمهوري بنحو مليوني صوت في مجمل التصويت. وثانيهما، انخفاض نسبة المشاركة بشكل ملحوظ مقارنة بالانتخابات البلدية السابقة من نحو 84.5% إلى 78.5%، وهو ما يعني فتوراً ملحوظاً، يُحسب بالأساس من جمهور الحزب الحاكم، والذي انخفض عدد المصوتين له بأكثر من 4 ملايين ناخب مقارنة بالانتخابات البلدية في 2019.
تراجع حزب العدالة والتنمية
أما عن لماذا فقد الحزب هذه القطاعات الواسعة من جمهوره المحافظ، فيمكن الإشارة إلى الأسباب التي ذكرها رئيس حزب الرفاه من جديد، فاتح أربكان، في كلمته الاحتفالية بنتائج الحزب في الانتخابات البلدية، وكان بعضها متعلق بالسياسات الاقتصادية، وأزمة التضخم والفوائد، وبعضها يتعلق بموقف الحكومة التركية من الحرب على غزة، والذي كان متواضعاً من وجهة نظرهم، ولا يتماشى مع جسامة الأحداث، وبعضها يتعلق بالسياسات الخارجية البرجماتية في ملف علاقاته مع الغرب.
السبب الرئيسي الثاني لهذه الهزيمة هو الضعف المتزايد في البنية القيادية لحزب العدالة والتنمية، والذي يبدو أنه يعاني منذ أمد من أزمة تجديد قيادي، فمركزية أردوغان في الحزب كان لها أثرٌ سلبي، إما بحجبه لشخصيات كان من المفترض أن تُهيئ لملء المهام القيادية بالحزب، لكنها ظلت محتجبة خلف قيادته المهيمنة، أو اضطرت إلى أن ترحل لتبدأ مساراً حزبياً مستقلاً. هذا الضعف القيادي يتضح في عدم قناعة الناخبين بكفاءة المرشحين الذين تم الدفع بهم، خصوصاً في البلديات الكبرى، وهي البلديات التي لم ينجح الحزب في الفوز بنتائجها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية المتعاقبة خلال السنوات الماضية. لذلك، من المهم ألا يكون الدرس الذي سيخرج به الحزب من فشله في هذه الانتخابات هو الحاجة إلى مزيد من الاعتماد على كاريزما أردوغان القيادية، من أجل تكرار نجاحها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في 2028، لأن ذلك يشكّل مخاطرة قد تتسبب في خسارة حاسمة للحزب، بل يجب أن يكون الدرس هو التفكير جدياً في استعادة الحزب لفاعليته المؤسسية، وإتاحة المجال لقيادات جديدة، يمكنها أن تعيد للحزب جماهيريته، وحيويته السياسية.
بالإضافة إلى هذين السببين الرئيسيين، هناك بالتأكيد أسبابٌ أخرى، مثل تفاقم الأزمة الاقتصادية على الرغم من الوعود المستمرة من أردوغان ووزير ماليته محمد شيمشك خلال الأشهر الماضية بالسيطرة على التضخم وضبط الأسعار، وكذلك تطلع قطاعات واسعة من الشباب، وهي الكتلة التصويتية الآخذة في الازدياد بشكل ملحوظ، إلى التغيير بعد بقاء أردوغان بشخصه وبحزبه مهيمنين على السياسة التركية منذ عام 2002، وربما رغبة الناخب التركي في خلق حالة من التوازن في المشهد السياسي بين التحالف الحاكم المهيمن على الحكومة والبرلمان، وبين المعارضة في البلديات، وهو التوازن الذي قد يكون مفيداً من حيث تنافس كلا الطرفين في تطوير أدائهما بما يحقق مصلحة المواطنين، لكنه -بلا شك- سيعزز حالة الاستقطاب السياسي خلال السنوات القادمة، وسيزيد من حالة الترقب وعدم الاستقرار في تركيا حتى موعد الاستحقاق الانتخابي القادم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.