استطاع ستيفن سبيلبرغ، المخرج السينمائي الأمريكي الشهير، والذي تُعد أفلامه من بين أكثر الأفلام نجاحاً وربحاً في تاريخ شباك التذاكر، أن يُثير الجدل بتصريحاته النقدية الحادة حول معاداة السامية وإسرائيل. إذ يرى سبيلبرغ، الذي يُعتَبَر الشخصية الأقوى والأكثر تأثيراً في صناعة السينما الأمريكية، بحسب مجلة Première الشهيرة، أن العنف الإسرائيلي المتواصل والمتزايد إزاء الفلسطينيين سيزيد من ردود الفعل ضده، ما قد يشعل معاداة السامية من جديد وخصوصاً في أوروبا.
ولا أعتقد أن تصريحات سبيلبرغ مبالغة، فبالنظر لردود الفعل الدولية المتزايدة ضد الاحتلال الإسرائيلي وهمجيته في حربه على غزة، خصوصاً في أوروبا، سندرك أهمية تعليقات سبيلبرغ عند النظر إليها في سياق أوسع.
بالإضافة لكون سبيلبرغ، من المخرجين الأهم الذين خلدوا ذكرى الهولوكوست من خلال إخراجه لفيلم Schindler's List، والذي من خلاله لم يُسلط الضوء على هذه الفترة المظلمة من التاريخ فحسب، بل كان له دور كبير في تعزيز الوعي العالمي حول المحرقة. إذ يُعد هذا الفيلم، الذي وصل إلى ملايين المشاهدين حول العالم، عاملاً مهماً في الاعتراف العالمي بالهولوكوست، ويصعب العثور على من لم يشاهد أو يسمع عن "قائمة شندلر". من خلال هذا العمل، لم يقتصر دور سبيلبرغ على التوعية بالهولوكوست، بل ساهم أيضاً في تنمية وعي ومشاعر الناس حول هذه القضية.
لذلك إذا ادعى سبيلبرغ أن معاداة السامية ربما تتصاعد مرة أخرى، فيجب اعتبار ذلك أكثر أهمية من تحذير أي شخص آخر. وبالنظر إلى هويته كفنان وتأثيره في السياسة الأمريكية، يمكن الشعور بثقل تحذيراته.
وبالنظر للإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، يبدو أن نتنياهو مازال متعطشاً للدماء الفلسطينيين، بينما تتصاعد الأصوات العالمية المنددة بالأعمال الوحشية كل يوم، من أوروبا ومن مختلف أنحاء العالم، ما بدأ في جعل سياسة المملكة المتحدة المتمثلة في الوقوف خلف إسرائيل بكل معنى الكلمة، أو سياسة الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل، والتي شُيِّدَت تحت تأثير اللوبي الإسرائيلي القوي في الداخل، تتضرر بشكل خطير. ويمكن اعتبار اضطرار نتنياهو لإلغاء زيارته للولايات المتحدة نتيجةً حاسمة لهذا الوضع، ويبدو الأشخاص الذين يخرجون إلى الشوارع حاملين الأعلام الفلسطينية في أيديهم يحققون أشياء عظيمة حقاً.
العنصرية الغربية
إن قول الحقيقة التي يعرفها الجميع بصوت أعلى قليلاً هو أحد الأمور الوحيدة التي يحتاجها عالمنا هذه الأيام. الغرب عنصري بطبيعته. ولقد استمرت هذه العنصرية بشكل كبير حتى الحرب العالمية الثانية. إن معاداة السامية ليست شيئاً حصرياً على هتلر، بل هي في قلب الغرب ذاته. لسنوات في الغرب، نُفِيَ اليهود من مكان إلى آخر، وحُكم عليهم بالعيش خارج مدنهم وأحيائهم، ومُنِعوا من أداء العديد من الخدمات العامة، وحُظِروا من الاستفادة من الخدمات العامة.
أدت هذه القسوة التي تعرضوا لها إلى تحويل اليهود إلى مستوى شعب مضطهد، ولم يتمكنوا من الحصول على بعض الحقوق إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يتمكن اليهود، الذين اضطهدهم الغرب لسنوات عديدة، من الحصول على حقوق معينة للعيش بإنسانيةٍ إلا بعد أن أصبحوا بائسين.
أرى اليوم، أن الإقرار بالحقائق المعروفة للجميع بصوت أعلى يُعد ضرورة في عالمنا المعاصر، ومن ضمن هذه الحقائق أن الغرب، بطبيعته، لطالما كان متهماً بالتحيز والعنصرية، وهي مشكلة استمرت بقوة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فمعاداة السامية ليست شيئاً حصرياً على هتلر، بل هي في قلب الغرب ذاته. فبالنظر عبر التاريخ، سنرى كيف تم نفي اليهود في داخل أوروبا وإجبارهم على العيش خارج المدن والأحياء، محرومين من العديد من الحقوق الأساسية، ومنعوا من الاستفادة من الخدمات العامة، ولم يتمكن اليهود من الحصول على حقوقهم الإنسانية الأساسية إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد سنوات طويلة من الاضطهاد في الغرب.
وهذه هي بالضبط النقطة التي يحاول سبيلبرغ لفت الانتباه إليها، فبينما يقوم نتنياهو وأنصاره بتدمير فلسطين، فإنهم يدمرون أيضاً البنية المُناهِضة للعنصرية التي ظل الغرب يحاول بناءها منذ ما يقرب من 80 عاماً. فمع سياسات نتنياهو، التي تمادت أبعد من القسوة، ربما تدفع الكثير من الناس في أوروبا يفكرون بهذا المنطق، قائلين: "في الواقع، لم يتعرض هؤلاء اليهود للاضطهاد عبثاً، بل كان الأمر كما لو أنهم يستحقون الاضطهاد".
إن الغرب يغطي نفسه بطبقة رقيقة للغاية من مناهضة العنصرية، لكن إذا رفعنا هذه الطبقة ولو قليلاً سنجد تاريخاً ضخماً وزاخراً بالعنصرية، لذلك لا مبالغة في القول إن وحشية نتنياهو ربما ستدفع الناس إلى تطوير أفكار عنصرية، والتي هي بالفعل موجودة اليوم، فالبنية العنصرية للغرب، والتي هي بالفعل على أرض زلقة للغاية وتكشف عن نفسها في كل أزمة كبرى، وليس من البعيد أن تتفاعل من جديد ضد اليهود. ولنتذكر أولئك الذين قارنوا بين الأطفال الأوكرانيين والأطفال السوريين خلال الحرب الروسية الأوكرانية، وزعموا أن الطفل الأوروبي يستحق العيش أكثر، أكان هؤلاء عددهم قليلاً؟!
كل يوم تقريباً، يخرج الأوروبيون في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا إلى الشوارع ليدافعوا عن الشعب الفلسطيني ويعبروا عن غضبهم الممزوج بالخوف ضد نتنياهو. ويبدو أن هذه المقاومة المتزايدة كافية لوضع الفكر المعادي للسامية على أساس مبرر ومشروع. وأعتقد أنها مسألة وقت فقط قبل أن تواجه إسرائيل عواقب وخيمة للغاية على الوحشية التي يقودها نتنياهو. ومع مرور كل يوم يبقى فيه نتنياهو في منصبه، فإن هذا التهديد يقترب خطوة أخرى من أن يصبح واقعاً.
استمرار توحش الاحتلال.. إسرائيل تطلق النار على قدميها
نجح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، في إصدار قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة للمرة الأولى في اليوم الـ171 للحرب، بعد أن قُتِلَ 32 ألف فلسطيني حتى الآن، وبالطبع استطاع مجلس الأمن هذه المرة، بعد أن امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على وقف إطلاق النار، ولم تستخدم حق النقض (الفيتو)، يبدو للوهلة الأولى أن امتناع الولايات المتحدة عن التصويت وكأنها تترك إسرائيل وحيدةً، إذ عقب ذلك إلغاء الوفد الإسرائيلي زيارتها التي كانت مُقرَّرة إلى واشنطن هذا الأسبوع. وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية بوضوح أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لن يُمتَثَل له.
لكن الأمر لا يبدو كما يظهر لنا، فإذا ما دققنا بأعيننا، نجد كيف سارع مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، ليقول إن قرارات الأمم المتحدة ليست ملزمة. ورغم أنه أدلى بمثل هذا التصريح للتخفيف من رد فعل القطاع المؤيد لإسرائيل، بمعنى آخر إن الولايات المتحدة الولايات المتحدة لن تتوقف عن دعم إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، بل كل ما تريده هو ضبط الحرب وفقاً لرؤية واشنطن لتتمكن من ضبط الانتقادات الداخلية والعالمية.
لكن في ظل جنون الاحتلال الإسرائيلي الحالي على غزة، لا يبدو ذلك منطقياً، بل ستزداد آلة الحرب الإسرائيلية وحشية، وها هي اليوم تنسحب من مستشفى الشفاء بعد أن ارتكبت فيه مجازر بشعة وأخرجته عن الخدمة تماماً، هذا بالتوازي مع أخبار عن واشنطن تفيد بأنها أجازت تزويد إسرائيل بشحنات جديدة من الأسلحة بينها طائرات "إف 35" وقنابل متطورة للفتك بالفلسطينيين.
ومع استمرار تصاعد العنف من جانب الاحتلال الإسرائيلي، من المحتمل أن ينتج عن ذلك تراجع في الدعم الدولي وانخفاض مكانتها في العرف السياسي العالمي. فكل رصاصة يطلقها الاحتلال على فلسطين ستتحول إلى رصاصتين يطلقهما الاحتلال على نفسه، وعلى سرديته في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.