خرجت في عمّان مظاهرات ذات طابعٍ شعبيّ وطنيّ تحمل روحَ الألمِ الذي تعانيه الإنسانيّة العربيّة؛ فالإنسان العربيّ ليس حَجراً ترومهُ الحوادث ويظلّ ملموماً بلا شعور، بل العربيّ كومة من العواطف يحزن، ويواجه أحزانه فيبدّدها مرّة ويكتمها مرّاتٍ أُخر، وفي الحقيقة لم يغِب الأردنّ منذ السّابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، عن أيّ مشهدٍ يساعد في إخراج غزة من قبضة الإرهاب الإسرائليّ؛ فعلى مستوى الحكومة دأبت ومنذ اليوم الأوّل للعدوان للبحث عن حلّ سياسيّ مهزوم ومفقود لتنتهي بعد آلاف المجازر، وعشرات من بؤر المجاعة إلى إنزالات جويّة هزيلة قتلت أكثر مما أنقذت. وعلى المستوى الشّعبيّ، فإنّ حال الأردنّ كحال عدد من الدول العربيّة، فمن لجان تجمع التبرّعات إلى مظاهراتٍ ما أعطت نفعاً، وما خفّت دمعاً؛ فما إن تتعالى الأصوات حتى تنتهي المسيرة وليظلّ صوت واحد من أهل غزّة يتعالى أقوى من هدير المدافع، مصحوباً بلحن من قرقرة البطون: "خذلتونا يا عرب".
ولكن وقبل عدّة أيّام خرجت مظاهرات عفوية شبابيّة تختلف عن أي احتجاج شعبيّ عربيّ يبدأ بالهتاف وينتهي بكلمة لأحد القيادة، ثم ينتهي بمشهد صمت، فإنّ مظاهرات عمّان شكّلت صراعات على مستوى الحدث. وفي الحقيقة فإنّ المتظاهرين أمام تحديّات متنوعة منها ما يتعلق بالأمن الداخلي الأردنيّ وصراع مواجهة السلطة من خلال الولاءات التي تظهر في الهتافات واللافتات المحمولة، ومعظم هذه الولاءات هي ولاءات عاطفية بقدر ما هي ولاءات سياسيّة فالذي يقاتل إسرائيل والذي تقاتله إسرائيل هي حماس ذلك الفصيل الذي أبهر العالم بصموده إلى الآن، وهنا برز الصراع في أدبيّات الولاء؛ وهذا الصّراع قاد لظهور ما يسمّى كتّاب التدخل السريع، وقرن شعارات تمجيد المقاومة بتمجيد إيران، فظهر ما يسمّى عندهم بالعاصمة الخامسة أي أن الاحتجاجات في شوارع عمّان هي تمهيد لسيطرة إيران على عمّان بعد سيطرتها على بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. ومن هنا يمكن تشريح هذه المسيرات الاحتجاجيّة وفق أسئلة بنائيّة تُسقِط فرضيّات كتاب التدخل السريع المدعومة من السلطة، ومن هذه الأسئلة: ماذا يميّز تلك المظاهرات؟ وإلى أي مدى سيصل تأثيرها؟
عودة مظاهرات الأردن
قبل ذكرِ ما يميّز تلك المسيرات، يجب العلم أنّ القوّة الأمنيّة ليست ناعمة في الأردن، فالسلطة السياسيّة تنهج نهج القمع الرحيم الذي يبيّض وجهها أمام المجتمعات ويقويّ عصاها أمام مجتمعها، فالسّجون ليست حلاً لوأد الحراك السياسيّ، بل هناك أدوات تستخدمها السلطة وهي الإحساس العام بالمراقبة، وبالتأكيد ذلك الإحساس لا يكون إلّا لشخصيّات متخيّرة من أبناء الطبقة السياسيّة أو من يحاول أن يكون سياسياً، وهنا تتعامل السلطة الأردنيّة من خلال تقسيم الاحتجاجات وفق أدبيّات التعامل معها إلى ثلاثة احتجاجات: الأول، مطلبيّ يحتاج لقرار سياديّ، والثاني مطلبي يحتاج لقرار تبعيّ خارجي، والثالث سياسيّ. أمّا الحراك السياسيّ فهو مُدرك صعب والتعامل معه يحتاج لحالة زمنيّة تاريخيّة وجزء من الشعبويّة الجاهزة وهو في نظر السلطة يكاد أن يكون غائباً، ولا يرعب. وأمّا المطلبيّ السياديّ فهو أسهل ما يدار؛ لأنّه قائم على مطلب ينتهي بتحقيقه أو الوعد بتحقيقه، والمطلبي الخارجي مرهون بسيادة الولاء إمّا الولاء للشعب أو الولاء للخارج.
وهنا لا نريد أن نخوض في مآلات السلطة وفلسفة الحريّة، لكن بالعودة إلى الحراك الأخير والذي يحمل جينات محددة تجمع بين المطلبية والسياسية أبرزها إغلاق السفارة، وقطع العلاقات مع المحتلّ، أو ما يعرف إنهاء التطبيع وإلغاء اتفاقيّة وادي عربة، وهذا هو المطلب السياسيّ للمسيرات، أمّ المطلب الخارجيّ فهو مطلب جمعيّ عربيّ وهو إنهاء الحرب في غزة وخروج القوات الإسرائيلية منها.
إنّ ما يميّز تلك المسيرات أنّ الشّعب يعرف ما يريده من السّلطة، والسّلطة تعرف ما يريده الشّعب، فالشعب يشعر بالعار وهو يشاهد الجسر البريّ والعلاقات التجارية دون أي عنوان يحمل شيئاً من كسر العار ولو بطرد السفير ويريد أن يكون الموقف حاسماً ولحظياً، بينما تخشى السلطة المقاربة في تحديد الولاءات؛ فالأردن مملكة لها رموز وطنيّة غير حاضرة، بل أحياناً تتعرض للانتقاد، بينما الرموز الحاضرة في تلك المسيرات هي رموز تظن الدولة أنّها سياسيّة تمجّد فصيلاً بذاته متناسية مدى شعبيّة تلك الرموز للمسلم وللعربيّ. إنّ شعور المواطن الأردنيّ بالعار، ذلك العار الذي لا حول للشعب فيه لا قوّة زاد أكثر كون السلطة في الأردن ما زالت تستمر في تسهيلات الجسر البريّ، وتلك ميّزة أخرى للمسيرات أي صنع رؤية حقيقية بين موقف السلطة والموقف الشعبيّ.
لعلّ تمجيد حركة حماس ليس الأول من نوعه، فمعظم المظاهرات التي كانت تخرج في كل الحروب كانت تمجّد المرابطين، ولم نشاهد في الهتافات أو الشعارات استنجادًا لإيران أو حتى حزب الله، فكلّ يقاتل على جبهته، لتخرج كتائب التدخّل السريع بتأكيد أخطار إيران متناسية موقف الأردن القيادي والسياسيّ في تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد صاحب الولاء المطلق لإيران.
الحراك أياً كانت شعاراته هو حراك عاطفيّ إنسانيّ يتدحرج لما هو أوسع إذا لم نشاهد الدول تستخدم أوراق ضغط أوسع، وإذا ما كان الموقف الرسميّ يتناسب مع الموقف الشعبيّ، فإنّ المظاهرات ستظل في حدود الولاء وليس كسر الولاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.