قطرات الماء المتدفقة معاً تشكل البحار والأنهار، وحبات الرمل المجتمعة تصنع العواصف، وحبات القمح المتراصة بجانب بعضها تكوّن السنابل، كذلك البشر هم الوحدات المكوّنة للمجتمع، فإذا تعاونوا واتحدوا كان هذا المجتمع قوياً ومستقراً، وإذا تباغضوا وتفرقوا كانوا كغثاء السيل الذي لا يُستفاد منه.
يقول نجيب محفوظ في روايته "السرايا": "الاتحاد هو سر النجاح والقوة، والفرقة هي جذور الضعف والانحطاط"، بينما تذكّرنا قصة الأب الحكيم الذي استدعى أبناءه ليعطيهم درساً عملياً عن قوة الاتحاد، فأعطى كلاً منهم عصى ليكسرها فتمكنوا من ذلك بسهولة، ولكن عندما أحضر حزمة من العصي المربوطة معاً حاول كل منهم بكل قوته أن يكسرها فلم يستطع، ثم طلب من الإخوة أن يجتمعوا ويتعاونوا فتمكنوا من كسرها عندما اتحدت قواهم وجهودهم، كذلك الأمم المتلاحمة المترابطة يمكنها تحقيق الكثير من الإنجازات وتخطي الكثير من العقبات، ولا يمكن لأي قوى كسرها أو التغلب عليها.
الاتحاد في الإسلام
نعيش في عالم مليء بالتنوع والاختلاف على مستوى المجتمعات والأشخاص، ما بين ثقافات ولغات ولهجات وعادات وتقاليد مختلفة ومتنوعة، قد تتناقض أحياناً وقد تتشابه في بعض منها. فجاء الإسلام ليذيب كل هذه الفروق ويوحد الصفوف ويؤلف بين القلوب، مستفيداً من هذه الروح التي يضفيها التنوع في البناء والتطوير، وتبادل الخبرات بين الشعوب والبلاد والحضارات المختلفة من خلال التعارف والتألف، إذ قال تعالى في كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [سورة الحجرات: 13].
ونرى في غزوة الأحزاب، كيف أشار الصحابي سلمان الفارسي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بفكرة حفر الخندق، معتمداً على ثقافته، ونقلاً لخبرته في وسائل الدفاع الحربية المستخدمة في بلاده "فارس". تلقى النبي هذه الفكرة بقبول، وشارك مع صحابته، رضوان الله عليهم، في حفر الخندق. هذا العمل كان أحد الأسباب الرئيسية لانتصار المسلمين في غزوة الأحزاب في العام الخامس للهجرة، بفضل الله. يُظهر الإسلام هنا كيف أنه لا يلغي أو يمحو الهوية الشخصية، بل يستفيد من مهارات وطاقات كل فرد والتنوع الثقافي في إطار التعاون والاتحاد لما فيه مصلحة الجميع، كما قال تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ".
المجتمع الإسلامي لم يعزل نفسه عن العالم، بل تفاعل واندمج عبر التاريخ مع حضارات وثقافات متنوعة، ولم يدمر أو حاول تشويهها، بل كان متعايشاً معها بسلام. ففتح المسلمون العديد من البلاد في آسيا وأفريقيا، بما في ذلك الأندلس، حيث اعتنق شعوب هذه البلدان الإسلام طواعية. كما قامت إمبراطوريات إسلامية قوية استمرت لقرون، حاكمة أراضي وشعوباً متعددة. التجار المسلمون أيضاً كانوا سفراء للإسلام خلال رحلاتهم التجارية، مروجين للدين بحسن أخلاقهم وأمانتهم.
رؤية إسلامية للتعايش العالمي
لقد نجح الإسلام أن ينسج بين قلوب المسلمين خيوطاً من ود وتعاطف، تمتدّ فوق حدود الملموس، في رابطة عميقة لا تلين أمام الغيبيات ولا تتأثر بالمسافات. فمن خلال هذه الرابطة يصبح المسلم في أقصى الشرق معنياً بحال إخوته في الدين بأقصى الغرب، ويتقاسم الألم والأمل مع من يعيشون في الشمال والجنوب، دون الحاجة إلى سابق معرفة. هذه الأواصر الوجدانية قد حوّلت العالم الإسلامي إلى قرية صغيرة، لكنها محافظةً على غنى تنوعها الثقافي، حيث تتلاشى الأبعاد الجغرافية، وتتضاءل الحواجز الطبيعية أمام قوة هذه الأخوة الروحية. وكما قال نبي الرحمة، محمد صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
الإسلام أبطل سم العصبية والجاهلية، حيث أنهى بدخوله حروباً شديدة كالتي كانت بين الأوس والخزرج. إذ قال تعالى: "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا". فقدم الأنصار أروع مثال على الإيثار للمهاجرين، فالإسلام جاء بمنهج يوحد ويسوّي بين المسلمين في كافة مناحي الحياة.
جسّد الإسلام، بهذا الوحي الإلهي، منظومةً توحيديةً فريدةً تسمو بالمسلمين فوق الفوارق والتباينات في كل شؤون الحياة. من بين ظلال هذه المنظومة صلاة الجمعة، التي تجمع شمل المسلمين أسبوعياً في مكان واحد، وصلاة العيدين التي تعمر الساحات بأفراح المؤمنين، فضلاً عن الصلوات الخمس التي توحد صفوفهم خلف إمام واحد، مؤكدة على وحدة الصف والهدف. وفي ميدان الجهاد، شدَّد الإسلام على ضرورة توحّد المسلمين تحت راية واحدة، مستشهداً بقوله تعالى: "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص".
هكذا بسط الإسلام أذرعه ليحتضن كل مسلم في لُحمة واحدة، مقتلعاً بذلك جذور الفرقة والتفرق، ومرسخاً أسس التواصل والتآخي بين أتباعه. ففي كل تعاليمه وشعائره يبرز الإسلام كنظام شامل يستهدف تحقيق الوحدة والتكامل الاجتماعي، من خلال كل فريضة وسنة، مؤكداً بذلك على الطبيعة الجامعة والشاملة للمنهج الإسلامي في نشر السلام والتآخي بين البشر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.