في ظلال صمت دولي مريب وتصاعد لأعمال عنف لا ترحم، تتوالى فصول حرب الإبادة التي تشنها القوات الإسرائيلية على قطاع غزة، تاركة خلفها دماراً هائلاً لم يستثن حجراً على حجر. هذه الحرب، التي تجاوزت الآن نصف عام من القتال العنيف، شهدت قصفاً مستمراً للبيوت والمستشفيات والمدارس، وهدمت بلا رحمة البنية التحتية للحياة اليومية.
وفقاً للأرقام الرسمية من الجهات المعنية، فإن النزاع منذ انطلاقته في السابع من نوفمبر 2023، قد أدى إلى استشهاد أكثر من 33 ألف فرد، بينهم 14,000 طفل، وأسفر عن إصابة حوالي 80 ألف شخص. أضف إلى ذلك، النزوح القسري لمليوني شخص، وتدمير 360 ألف منزل، و290 مسجداً وثلاث كنائس، إلى جانب تضرر حوالي 70% من المؤسسات التعليمية، والعديد من المواقع التاريخية والأثرية، مما يرسم صورة قاتمة للوضع الإنساني في القطاع.
وسط كل هذه البشاعات القاسية، تستمر فقط 10 مستشفيات من أصل 36 في غزة بتقديم خدماتها بصورة محدودة، وهذا يتم تحت ظلال حصار شديد وقصف متواصل يطال هذه المنشآت الطبية، مخلفاً وراءه سلسلة من الأحداث المأساوية التي تطال المرضى والكوادر الطبية على حد سواء. تأتي هذه الأفعال في إطار استراتيجية تشمل استخدام الجوع كسلاح، مع استمرار العراقيل أمام وصول المساعدات الإنسانية، ونقص حاد في الموارد الأساسية كالماء والأدوية.
ولا يقف الأمر عند ذلك، فخلال هذا العدوان الهمجي، يُشدد الاحتلال الإسرائيلي على تقييد الاتصالات والإنترنت لطمس الحقائق حول الفظائع والجرائم المرتكبة، لا سيما في مستشفى الشفاء ومناطق أخرى من غزة، التي تناقلت بعض وسائل الإعلام تقارير حول وقائع مروعة كحالات الاغتصاب والإعدامات الميدانية التي نفذها جنود الاحتلال، بالإضافة إلى جهود مكثفة لقمع الأصوات الفلسطينية ومنع تسرب الأخبار عن هذه المجازر إلى العالم الخارجي.
وكأن الحياة قد توقفت عن النبض، والحرب التي تُشنُّ على الفلسطينيين منذ بداية الأسبوع الثاني تُعلن عن زوال عالم كان يسكن خيالات الكثيرين؛ عالم كان يُفترض أن يكون مثالياً، مزهواً بقيم الديمقراطية والحرية، معتمداً على انتخابات تمثيلية، واقتصاد السوق، وحرية الفكر والتعبير، وملتزماً بحقوق الإنسان كما نصَّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والغرب، الذي يُعتبر مؤسساً لهذا الإعلان، وواضعاً لقوانين حماية المدنيين في أوقات الحرب، ومحارباً للتمييز والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، والمؤكد على حق الشعوب تحت الاحتلال في المقاومة بما في ذلك المقاومة المسلحة، يبدو أنه قد اختفى.
إنه عالم لم تعد فيه النداءات تجد آذاناً صاغية، عالم أعرض عن سماع صرخات الجوع والألم التي تعلو في غزة، فتاهت الحقائق وسط ضجيج الصمت الدولي.
نصف عام مضى، كل يوم منه مليء بالمآسي وانتهاك للحياة والعزة الإنسانية، ستة أشهر من الأسى والمعاناة تشهد على تآكل الروح البشرية. ستة أشهر من حصار مطبق وقتل ممنهج ودمار لا يبقي ولا يذر، ستة أشهر تجسد غزة، قلبها ينبض تحت ثقل الدموع والخراب. ستة أشهر من الخطابات المنمقة والشعارات الهوائية، ستة أشهر والعالم يتجاهل بصمت رهيب، لا نجد له مبرراً!
أين نحن والعالم من هذا الانحدار الأخلاقي والإنساني الذي لم يعد يعرف حدوداً؟ في عدوانها على غزة، لم تدمر إسرائيل مجرد أرض وشعب فحسب، بل أطلقت هجوماً عنيفاً على كل ما تعرفه الإنسانية من قيم ومبادئ. إنها ليست مجرد حرب على قطعة من الأرض؛ إنها حرب على العالم بأسره، على مبادئه وقوانينه التي طالما سعى لوضعها ليعيش الإنسان بشكل أفضل.
بتوحشها وبصمت العالم المطبق، تعلن إسرائيل العداء لأي مبدأ أخلاقي، ترفع راية البطش والقهر، متحديةً بذلك ليس فقط غزة وأهلها، بل كل إنسان لديه ضمير حي على وجه الأرض. وفي هذا الصمت الدولي المخزي، يبقى السؤال المؤرق: إلى أي مدى بعد يمكن أن يهوي هذا الانحدار الإنساني والأخلاقي؟
سيبقى الصمت والتقاعس السائد وصمة عار في تاريخ في جبين البشرية والإنسانية جمعاء، وسيسجّل التاريخ أن أمة المليار مسلم لم تستطع توفير كسرة خبزٍ لأصحاب الأمعاء الخاوية في غزة، حتى في شهر رمضان الفضيل، شهر الصيام السادس في غزة.
وفي المقابل، سيبقى سقوط إسرائيل في براثن أوهام نتنياهو وقادة الاحتلال درساً لا يُنسى.. وكما قالها والدي الشهيد قدري أبو بكر: "تستطيع قوة القمع أن تدرك أشياء كثيرة ، لكنها أعجز ما تكون عن ادراك أن مضطهديها سيستطيعون يوماً سحقها".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.