اتخذ البنك المركزي التركي، يوم الخميس 21 مارس 2024، خطوةً مفاجئة برفع سعر الفائدة (سعر إعادة الشراء لمدة أسبوع) بمقدار 500 نقطة أساس، ليصل إلى نسبة 50%، وعلَّل قراره بأنه جاء "استجابةً للتدهور في تقديرات التضخم عن المتوقع". وقرر البنك أيضاً تعديل الإطار التشغيلي لسياسته النقدية من خلال تحديد أسعار الفائدة على الاقتراض والإقراض لليلة واحدة لدى البنك المركزي، بمقدار 300 نقطة أساس (أقل وأعلى) من سعر مزاد إعادة الشراء لمدة أسبوع واحد، على التوالي.
وجاء هذا القرار للبنك المركزي التركي في إطار محافظته على التشدد في الموقف النقدي حتى يشهد انخفاضاً كبيراً ومستداماً في الاتجاه الأساسي للتضخم الشهري، وحتى تتقارب تقديرات التضخم مع النطاق المتوقع. وستشهد السياسة النقدية مزيداً من التشديد إذا حدث تدهور كبير ومستمر في التضخم.
وأشار بيان البنك المركزي التركي إلى أن واردات السلع الاستهلاكية والذهب قد تباطأت وتيرتها، ما أدى إلى تحسن ميزان الحساب الجاري، لكن المؤشرات الأخرى لفتت ضمناً إلى أن الطلب المحلي لا يزال "مستقراً" عند المستويات التي يُراد انخفاضه عنها. وقال البيان: "إن الجمود في تضخم الخدمات، والتقديرات المتوقعة للتضخم، واستمرار المخاطر الجيوسياسية، واستقرار التزايد في أسعار المواد الغذائية يُبقي ضغوط التضخم متواصلة".
وبناء على هذا القرار، يكون البنك المركزي التركي قد رفع سعر الفائدة بمقدار 4150 نقطة أساس (من 8.5% إلى 50%) منذ يونيو/حزيران الماضي، وذلك بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في انتخابات مايو/أيار، واتخاذه قرار التحول الكامل في السياسة الاقتصادية.
رفع أسعار الفائدة "أذهل السوق"
جاءت مفاجأة التشديد في السياسة النقدية قبل 10 أيام من الانتخابات المحلية في البلاد، لذا عدَّها محللون دليلاً على أن البنك المركزي مستقل عن أي قيود سياسية، وعازم على معالجة التضخم الذي يرتفع نحو 70%.
ويعد قرار رفع سعر الفائدة إشارةً قويةً للغاية على أن المحافظ فاتح كاراهان، الذي تولى المنصب بعد الاستقالة غير المتوقعة من حفيظة غاية أركان، عازمٌ على السيطرة على التضخم الذي ارتفع إلى مستويات صادمة. وقد كرَّر البنك في البيان توقعاته بأن "التضخم سيتراجع في النصف الثاني من عام 2024".
وأشار البيان إلى أن "لجنة السياسات النقدية تواصل تنفيذ السياسات الاحترازية الكلية للحفاظ على آليات عمل السوق، والاستقرار المالي الكلي. وفي هذا السياق تأتي التدابير المتخذة في مارس/آذار لتشديد الظروف المالية، وتعزيز آلية الانتقال في السياسة النقدية"، ومن المقرر أن "يتواصل دعم آلية التحويل النقدي إذا حدثت تطورات غير متوقعة في نمو الائتمان، وأسعار الفائدة على الودائع".
القرار غير المتوقع برفع أسعار الفائدة يستهدف مكافحة التحديات الاقتصادية الحادة التي تواجهها الأسر
يستهدف القرار غير المتوقع برفع أسعار الفائدة مكافحة التحديات الاقتصادية الحادة التي تواجهها الأسر، وذلك في خضم معاناتها من ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية. ويأتي قرار البنك المركزي المفاجئ برفع أسعار الفائدة كاستجابةٍ لتوقعات التضخم المتدهورة، مع ارتفاع معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين إلى 67% في شهر فبراير/شباط. وأدى الارتفاع الحاد في الأسعار إلى فرض ضغط مالي هائل على العديد من الأسر، ما أدى إلى صعوبةٍ متزايدة في تحمل تكلفة الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والإيجار والمرافق. وأسفرت استراتيجية خفض أسعار الفائدة عن وصول التضخم إلى رقم من خانتين وحدوث أزمة عملة. بينما يستهدف رفع أسعار الفائدة إعادة الثقة في العملة، وإحلال الاستقرار في سوق المال بالتزامن مع التحديات الاقتصادية المتواصلة.
وبمعدل تضخم بلغ 67% في الشهر الماضي، تظل أسعار الفائدة "الحقيقية" (أي سعر فائدة البنك المركزي مطروحاً منه معدل التضخم التركي) من بين أكثر أسعار الفائدة سلبيةً في العالم. وإذا كان رفع الفائدة يؤدي بك إلى أسعار فائدة حقيقية سلبية فهذا يعني أن معدل رفع الفائدة لن يكون كافياً، ولا يزال جوهر مشكلة التضخم التركية متمثلاً في الليرة، حيث خسرت الليرة التركية أكثر من 95% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي خلال العقد الماضي، بما في ذلك 40% من قيمتها منذ انتخابات العام الماضي، و9% منذ مطلع 2024. وتراجعت الاحتياطيات الأجنبية مؤخراً مرةً أخرى، رغم أن الخزانة لم تواجه مشكلةً في تعزيز أرصدتها بالاعتماد على أسواق الدين.
ويُمكن القول إن السياسة المالية فعالةٌ بقدر النقدية في خفض التضخم، إذ أخذ البنك المركزي التركي خطوةً تلو الأخرى لتشديد السياسة النقدية. وعلى الجانب الآخر ستستمر تركيا في تشديد سياستها المالية من أجل المساعدة في كبح التضخم، ومن المتوقع أن يظل مسار التضخم مرتفعاً حتى منتصف العام الجاري، قبل أن يتجه نحو الانخفاض بعد منتصف العام. وبالنظر إلى ضغوط الأسعار والطلب المحلي القوي، تزداد احتمالية اتخاذ المزيد من الإجراءات السياسية لتهدئة التضخم، في أعقاب الانتخابات المحلية، المُزمع عقدها على مستوى البلاد في 31 مارس/آذار.
بينما تتباطأ واردات سلع المستهلكين والذهب، ما يُسهم في تحسين ميزان الحساب الجاري. وتشير المؤشرات الحديثة الأخرى إلى أن الطلب المحلي لا يزال قوياً. ولا شك أن استمرار تضخم الخدمات، وتوقعات التضخم، والمخاطر الجيوسياسية، وأسعار الغذاء تسهم في إبقاء الضغوط التضخمية مستمرة.
رفع الفائدة قبيل الانتخابات
ارتفع التضخم إلى مستوى أعلى من المتوقع (عند 67%) الشهر الماضي، بعد تثبيت البنك المركزي أسعار الفائدة في أعقاب سلسلة متواصلة من قرارات رفع الفائدة منذ يونيو/حزيران.
ورغم توقعات البنك المركزي بانخفاض التضخم في منتصف العام تقريباً، فإن تقديرات التضخم الحالية ظلت عصية على الانخفاض. وأدى الانخفاض الأخير في قيمة الليرة التركية، وانخفاض الاحتياطيات الأجنبية إلى رواج التوقعات التي ذهب إليها بعض المحللين بشأن اتجاه البنك إلى مزيد من رفع أسعار الفائدة في المستقبل، ولكن من المستبعد أن يحدث ذلك قبل الانتخابات المحلية في 31 مارس/آذار، والتي يحاول حزب العدالة والتنمية فيها، بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، استعادة الولاية على بعض المدن التركية، مثل إسطنبول.
من المتوقع تشديد السياسة المالية بعد الانتخابات المقبلة، وأن يشمل ذلك زيادة الارتفاع في تكاليف الائتمان. وقد تعهَّد وزير المالية محمد شيمشك، هذا الشهر، باتخاذ خطوات لمساعدة البنك المركزي في خفض التضخم. وقد تباطأت وتيرة التحفيز المالي تباطؤاً كبيراً بعد الانتخابات العامة، التي جرت في مايو من العام الماضي، لكنها ارتفعت قليلاً في الأشهر الأخيرة قبيل الانتخابات المحلية المقرر عقدها هذا الشهر. وإن رفع أسعار الفائدة هو الدليل على أن شيمشك والبنك المركزي لديهما القدرة على اتخاذ قرارات جريئة، سواء أكانت هناك انتخابات مقبلة عما قريب أم لم تكن.
كيف كانت استجابة الأسواق لهذا الرفع المباغت لأسعار الفائدة؟
أوضح البيان الصادر عن لجنة السياسة النقدية أن البنك المركزي التركي عازم على استخدام الأدوات اللازمة عند الضرورة، حتى لو أثَّر ذلك في أسعار الأصول.
كان سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة التركية عند 32.4170 قبل القرار، وانخفض بنحو 1.2%، ليصل إلى 32.0230 بعد قرار رفع سعر الفائدة. وانخفضت الليرة مقابل اليورو بنسبة 1.4 % تقريباً، من 35.5140 قبل القرار إلى 35.0110 بعده. أمَّا سعر غرام الذهب فكان يدور عند 2301 ليرة تركية قبل قرار البنك المركزي، ثم انخفض بنسبة 1%، ليصل إلى 2277 ليرة تركية بعد القرار.
واستقر مؤشر أسهم (أعلى 100 شركة من حيث القيمة السوقية في بورصة إسطنبول) BIST 100 عند 9075 نقطة، بعد تذبذبه في أعقاب قرار رفع سعر الفائدة، وكان المؤشر يحوم عند 9079 نقطة قبل القرار. ومن ناحية أخرى، انخفضت علاوة مخاطر الائتمان لمدة خمس سنوات في تركيا بنحو 25 نقطة، لتصل إلى 318 نقطة أساس.
يعارض شيمشك في تركيا توقعات انخفاض قيمة الليرة بعد الانتخابات
قال وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك إن برنامج الاقتصاد التركي "يعمل بفاعلية"، وإن مجموعة السياسات الحالية تدعم الليرة التركية، وأبدى معارضته للسيناريوهات التي تتوقع انخفاضاً حاداً في قيمة الليرة التركية بعد الانتخابات المحلية.
ظلت الليرة مستقرة نسبياً منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أُجريت في مايو/أيار من العام الماضي، والتي أعقبها تغيير مجلس الوزراء، والتحول إلى سياسات اقتصادية أقرب إلى التقليدية. وقد تراجعت قيمة العملة بنحو 6% هذا العام بعد انخفاض بنحو 37% في 2023.
ورغم أن بعض المحللين يتوقعون مزيداً من الانخفاض في العملة بعد الانتخابات، فإن شيمشك قال إن السلطات لا تريد تدهوراً في قيمة الليرة ولا ارتفاعاً حاداً في قيمتها. وقال: "لا نريد أن تكون قيمة الليرة أعلى من قيمتها الحقيقية، ولا أقل من قيمتها الحقيقية".
نفَّذت الإدارة الاقتصادية الجديدة، تحت قيادة وزير المالية شيمشك، تشديداً قوياً في السياسات النقدية يهدف إلى وقف التضخم، والحدِّ من العجز المزمن، وإعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي، وتحقيق الاستقرار في قيمة الليرة.
وقال شيمشك إن الهدف الجوهري لبرنامج الحكومة متوسط المدى، الذي كُشف عنه في سبتمبر/أيلول، هو "خفض التضخم إلى أقل من 10%"، وندرك "أننا بعيدون عن استقرار الأسعار في الوقت الحالي، لكن هذا هو هدفنا"، وأشار الوزير إلى أن التضخم السنوي سيظل مرتفعاً في الأشهر المقبلة بسبب التأثيرات الأساسية والتأثير المتأخر لرفع أسعار الفائدة، ولكنه سينخفض خلال الأشهر الـ12 المقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.