تتعدّد أساليب الخطاب الدعوي المعاصر تبعاً للمنشأ الفكري والمنبت الاجتماعي وأنماط الشخصية المتباينة للدّعاة، الذين تجد فيهم العقلاني والعاطفي، أو النصّي الأثري وصاحب الحجة المنطقي، ومن يتمسك بالاتباع والأخذ بالنصوص، ومن يميل للحجاج والمجادلة، وكلها مناهج موجودة وأساليب خطاب منتشرة.
سمات الخطاب النبوي الشريف
يزعم كل واحد من ألوان الطيف الإسلامي من الاتجاهات المتنوعة والمتباينة، أنَّه يستند فيما يعتمده من فكر ومنهج، ومبدأ وخطاب، على نصوص القرآن والسُّنة، إلا أنَّنا لو نظرنا إلى سيرة النبي الكريم ﷺ لوجدنا أنّ لخطابه عليه السلام سمات وصفات، يمكن أن نستخلصها من مواقفه وحياته، وتواصله مع الناس في دعوته، ومن ذلك أنّه كان ﷺ يخاطب أبناء عصره بما يعقلونه، وهو الذي يقول: "أُمرت أن أخاطب النَّاس على قدر عقولهم"، ويواجه خصومه بما يكافئ أسلحتهم وأساليبهم، الأمر الذي جعله يتّخذ له شعراء يستقبلون معه الوفود، وخطباء يبُزُّون الأقران، وكان ﷺ يشجعهم ويمدحهم، ويقول لأحدهم: "اهجهم وروح القدس معك، والذي نفسي بيده لَشِعْرُك أشدُّ عليهم من نَضْح النبل في غسق الصبح"، وقد دعا لشاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه بقوله: "اللهم أيّده بروح القدس"، بل نصب له منبراً يلقي من فوقه الشعر، وكان يستمع إليه وإلى كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم فيأنس بما يسمع، ويصوّب ما يراه من خلل أو نزوغ لهوى أو جاهلية، وهم يلقون قصائدهم في المسجد، مصرّحاً باعتبارهم من الذين آمنوا والذين استثناهم الله سبحانه بقوله: "والشعراء يتّبعهم الغاوون. ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون. وأنّهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أيّ مُنقلَب ينقلبون". وفي كلّ ذلك ما يبين أنّ خطاب النبي ﷺ مع قومه كان يتّسم بالكلمة الطيبة، والحوار الهادئ، والمنطق المقنع، والحجة الواضحة، ومواجهة الحجة بالحجة، والموقف بالموقف، والسلاح بما يكافئه من سلاح.
الرحمة والتسامح في الخطاب النبوي
كان ﷺ أرحمَ النَّاس بالنَّاس، وأحرصَهم على خيرهم، فلا يفوته موقف إلا وعظ، ولا يغيب عنه مقام إلا نَصَح، يرتاد السُّوق ليحدِّث العامَّة، ويقصد دار الندوة ليخاطِب الخاصَّة، ولا يحتاج العاملون للإسلام إلى ابتكار خطاب يواكب العصر ويحاكي الجماهير أكثر منه اليوم، في زمن تزداد فيه الحاجة إلى استيعاب أطياف مجتمعية ضلَّلها الإعلام، وشوَّهت صورةَ الحقِّ فيها مناهج التربية والتعليم، وساهمت في حرفها عن الفطرة حكومات، وعقدت من أجل غاياتها الخبيثة هذه مؤتمرات ومؤامرات، وأُنفقت في سبيل ذلك أموال وسُخّرَت طاقات، فشوّهت صورة الإنسان وعبثت بقيم الأسرة، وجاءت بما لم يأتِ به من قبل شيطان! وإنّنا ما لم ننتبه للسّمات التي تميّز الخطاب النبوي الشريف فإنّ تشويهاً سيطال خطابنا ومجتمعاتنا في آنٍ، بفعل التغيرات الاجتماعية والسياسية، والمؤثرات الجغرافية والفكرية، ممّا يجعل خصائص الخطاب النبوي الشريف وسماته بمثابة الحساس الذي نقيس عليه خطابنا، في اللفظ والمعنى والحقيقة؛ فقد مزج النبي ﷺ بين هذه القيم الثلاث لتكون كلماته منتقاة، ومعانيه دقيقة، وما يعبّر عنه باللفظ والمعنى إنّما هو الحقيقة بكلّ جلالها وعظمتها، وما اتّسمت به من صراحة ووضوح، ورحمة وتسامح، وإقبال على الخير ورغبة بهداية الناس.
الخطاب الدعوي المطلوب في لبنان
لعلَّ واقعنا في لبنان، مع ما يتميز به هذا البلد من تعدّد طائفي، وتنوُّع مذهبي وفكري، وانفتاح حضاري وإنساني، وما يعجُّ به من أفكار وانتماءات، أحوج ما يكون إلى خطاب إسلامي معاصر يتلمس في خطاب النبي ﷺ ما يراعي به هذا الواقع المعاش وتبايناته، مع محافظته على الثوابت وتمسُّكه بالمبادئ، وحرصه على الانطلاق نحو الآخر بروح التسامح والحوار، ومشاعر الإحسان والرغبة بالخير العام، على أساس العيش المشترك، وروح المواطنة، ومبدأ التعاون على خدمة الوطن والإنسان، واحترام الحقوق، والمحافظة على الأرض، انطلاقاً من مبادئ المساواة، والعدل، وسيادة القانون، والابتعاد عن كلّ أنواع الجبر والإكراه.
إنّ إيماننا بلبنان وطناً لجميع أبنائه، يتساوى فيه اللبنانيون تحت سقف القانون، لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي، أو سنّي وشيعي ودرزي، جزء من إيماننا التعبّدي، وموجّهٌ هامّ من موجّهات خطابنا الدعوي؛ لأنّ ما نريده في لبنان هو الدولة المدنية والمجتمع المتديّن، فالدولة المدنية هي التي يتعايش أبناؤها تحت سقف نظامها دون تمييز وعنصرية، ولا أحقاد وكراهية، بل ما يحكم العلاقات العامّة بينهم هو التعاون من أجل البناء، في ظلال سلطة تداولية، يُختار فيها الحاكم بالانتخاب، وتُتولَّي المسؤولية على أساس الكفاءة، وفي القانون ما يتيح محاسبة الحاكم ومساءلته حيث الجميع أمام القانون سواء. وهو مجتمع متديّن التزاماً بالدستور الذي تنص مادّته التاسعة على أنّ "الدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية"، دون إخلال بالنظام العام أو تعدٍّ على حقوق الآخرين. والخطاب الإسلامي الدعوي في هذا السياق خطاب يتوجّه به الداعية إلى المسلمين وغير المسلمين، فالمسلم يتعبّد الله بخدمة بلده، وغير المسلم شريك له كامل الحقوق والواجبات، الأمر الذي يجعلنا منفتحين على الطوائف اللبنانية الثماني عشرة، "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، طالما أنّ غاية الجميع بناء المجتمع المتحابّ والدولة العادلة، وهي قيم لا يمكن أن تتحقّق إلا في دولة مدنية تقيم العدل وتحفظ الحريات، ومجتمع متدين يملك الأفراد فيه وازعاً ذاتياً يمنعهم عمّا يسيء لوطنهم وشركائهم في الوطن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.