وصل لوكا مودريتش من توتنهام إلى ريال مدريد في صفقة هادئة، كتلك الصفقات التي تأتي لسد الثغرات، أو ربما لأن المدرب يرى فيها فرصة لتقوية خط الوسط.
لم يتوقع أحد، ولا حتى لوكا مودريتش نفسه، أن يتحول مسار الصفقة بهذا الشكل، ويُصبح لوكا مودريتش هو اللاعب الذي يحتفظ بمركزه الأساسي في صفوف نادي ريال مدريد، مهما تعاقبت عليه الأجيال!
حينما وصل لوكا مودريتش إلى صفوف ريال مدريد،كان الفريق مُتخماً بعناصر في الوسط، سعى إليها ريال مدريد منذ المواسم السابقة أمثال: تشابي ألونسو، سامي خضيرة، مسعود أوزيل، أنخيل دي ماريا، ريكاردو كاكا.
كانت فكرة الحصول على فرصة في وسط كهذا بالنسبة للاعب يأتي من فريق بحجم توتنهام صعبة بعض الشيء، خاصة أن ريال مدريد قد اهتدى بالفعل إلى توليفة الوسط المناسبة.
وبسرعة جنونية تحول لوكا مودريتش إلى الورقة الرابحة، التي يدفع بها المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو كلما ضاقت السُبل وابتعدت فُرص الانتصار، وكان اللاعب يُبلي بلاءً حسناً كلما استطاع لذلك سبيلاً.
لا سيما أن لوكا مودريتش قد أسهم بشكل صريح في تأهل ريال مدريد في الأولد ترافورد، أمام نادي مانشستر يونايتد في بطولة دوري أبطال أوروبا بهدف جميل في موسمه الأول.
في الموسم التالي، وبعد أن أثبت لوكا مودريتش جودته كلاعب يُعتمد عليه في اللحظات الحرجة، فكر الجهاز الفني، بقيادة المدرب الجديد الإيطالي كارلو أنشيلوتي في استخدام لوكا كورقة أساسية في قوام الفريق.
ربما كان رهان كارلو أنشيلوتي قائماً على جودة لوكا نفسه، لكن كان من الصعب توقع ما ستفعله جودة لوكا مودريتش في تاريخ ريال مدريد، الفريق الذي لم يُحقق لقب بطولة دوري أبطال أوروبا منذ عام 2002.
الفريق الذي كان يفتقد اللاعب صاحب التصرفات الاستثنائية في لحظاته الصعبة، والتي لم يكن يعرف كيف يفلت منها خلال اثنتي عشرة سنة كاملة منذ آخر تتويجاته بلقب البطولة!
في لشبونة، وتحديداً على أرضية ملعب النور، استطاع لوكا مودريتش أن يفرض اسمه في قائمة أساطير ريال مدريد، رغم حداثته على الفريق، حين رفع الكرة التي استقرت فوق رأس القائد سيرجيو راموس وسكنت شباك أتلتيكو مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا، وكأن هذه اللقطة كانت لقطة بداية الانطلاق لمسيرة حافلة قادمة للفريق، الفريق الذي بدأ المسيرة من خلال التتويج باللقب في تلك الليلة، وللمرة الأولى بعد رحلة شاقة ومُضنية من البحث.
لوكا مودريتش العازف الأجمل في سيمفونية ريال مدريد
أخيراً أصبح لوكا مودريتش الورقة الرابحة من بنك الاحتياط، المُعاملة الرئيسية في كل يوم يطل فيه ريال مدريد، وقام خط وسط ريال مدريد على لوكا وما دونه يعني الخلل!
لكن لوكا مودريتش، ربما لم يكن اللاعب صاحب الذهو الكبير في كافة النواحي؛ خاصة أنه لا يُسجل كثيراً، رغم أنه كلما سجل فعل شيئاً رائعاً واستثنائياً يظل محفوراً في الأذهان.
الجنسية الكرواتية قللت كثيراً من نظرة الناس له، واعتقد البعض أن قائد منتخب كرواتيا لا يُقدم ما يُقدمه عادة مع ريال مدريد رفقة بلاده، وحتى وإن فعل فإنه لا يلقى نفس المديح الذي يلقاه في فريق العاصمة الإسبانية فمن يهتم بالمنتخب الكرواتي الآن.
في عام 2017، تولى زلاتكو داليتش قيادة المنتخب الكرواتي فنياً، وكان لوكا مودريتش للتو قد حقق لقب بطولة الليغا الإسبانية وكذلك بطولة دوري أبطال أوروبا مع ريال مدريد.
الأوضاع في مدريد كانت مُغايرة تماماً لمنتخب كرواتيا، الذي كان يُعاني من التخبط والتباعد، وتولي داليتش للمهمة الفنية لم يكن إلا تجربة من ضمن تجارب كرواتية كثيرة لإيجاد حل فعلي لهذا الشّقاق.
في كأس العالم روسيا 2018، وجد منتخب كرواتيا للمرة الأولى الحلم الذي غاب عنه، والطموح الذي كاد يتلاشى من جيناته، بعد أن تُوج بالمركز الثالث في مونديال كأس العالم فرنسا 1998.
وقادهم مودريتش إلى مركز الوصيف للمرة الأولى في تاريخهم، بعد أن وصلوا إلى مرحلة لم يكن أشد المتفائلين يتوقعها ويحلم بها، قال الناس إن الوصول إلى المربع الذهبي كان سهلاً بالنظر للطريق الكرواتي، وقد يكونون صادقين في هذا الصدد.
لكن ما يغفله البعض هو الحالة التي ذهب بها المنتخب الكرواتي، الذي تأهل من مجموعة ضمت نيجيريا والأرجنتين متصدراً لها، ومنتصراً بثلاثية على المنتخب الأوفر حظاً في التأهل؛ الأرجنتين.
لقد وصلت الأرجنتين وصيفة، وغادرت بمقابلة فرنسا، لكن شقت كرواتيا طريقها نحو القمة، وفعلت ما استطاعت لتحقيق حلم شعبي يدرك الجميع أنه مستحيل، وقال داليتش إن كل هذه المحطات ما كان للقطار الكرواتي أن يزورها لولا قيادة وروح مودريتش في قوام المنتخب.
يمتلك المنتخب الكرواتي عناصر معروفة للغالبية العظمى من الجمهور، بحكم المزاح بخصوص أسمائهم التي تنتهي دائماً ب..يتش، لكن البعض الآخر يعرف أبرز نجوم المنتخب الذين يلتفون حول قائده مودريتش.
ولم يكن دور القيادة بالنسبة للوكا مودريتش مجرد حالة نادرة في عام 2018، بل عاد المنتخب الكرواتي إلى مونديال 2022 في قطر، وتأهل إلى المربع الذهبي من جديد، وأطاح بالبرازيل قبل أن تصل إلى مرحلة الحلم الأكبر بمقابلة الأرجنتين.
فازت كرواتيا بركلات الترجيح، في مباراة كان فيها مودريتش استثنائياً كما جرت العادة بالنسبة له، واصطدمت بالأرجنتين في نصف النهائي، لكن في نهاية المطاف وقف المنتخب الكرواتي مجدداً على منصة التتويج، ليُعادل إنجاز عام 1998 ويُحقق المركز الثالث.
ولحُسن الصُّدف، فإن المنتخب الكرواتي في المرتين، تقابل مع أبطال العالم، سواء فرنسا التي فازت عليه في نهائي روسيا، أو الأرجنتين التي أطاحت به وحققت اللقب في نهائي قطر.
قد لا يُسجل لوكا مودريتش؛ فهو ليس اللاعب الذي يتقدم عادة لمناطق مهمة وخطيرة، لكنه على أقل تقدير لا يقف عاجزاً طوال الوقت، ويصنع لحظات لا يُمكن لغيره أن يصنعها.
كان ريال مدريد على أعتاب توديع بطولة دوري أبطال أوروبا موسم 2021-2022، لكن تلك الركضة من لوكا مودريتش أمام باريس سان جيرمان في ثمن النهائي في الهدف الثالث، والتمريرة الرائعة لبنزيما في الهدف الثاني؛ حالا دون ذلك الخروج.
كان ريال مدريد على أعتاب توديع بطولة دوري أبطال أوروبا موسم 2021-2022، لكن تلك التمريرة السحرية من لوكا مودريتش لرودريجو جوياس أمام تشيلسي، في وقت كان يختنق فيه ريال مدريد فعلاً، كانت أشبه بقُبلة الحياة على جبين فريق حقق البطولة الرابعة عشرة في نهاية الأمر.
لا يُسجل لوكا مودريتش عادةً، وهذا الأمر كان محل انتقاد بالنسبة له في تتويجه بالكرة الذهبية عام 2018، في موسم لعب فيه دور اللاعب الخفي في تتويج ريال مدريد بدوري أبطال أوروبا، ووصافة كرواتيا لكأس العالم.
لم يسعَ لوكا مودريتش أبداً لمثل هذه الإنجازات الفردية، فربما كان خط الوسط الوحيد في العقد الأخير وما قبل الأخير، الذي تُوج بالكرة الذهبية وسط زحام المهاجمين، وكذلك أثناء تواجد ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو.
لم ينطق لوكا مودريتش يوماً بكلمات تضعه فوق الآخرين، لم يرفع نفسه على منصة الغرور، بل ظل كما عهدناه متواضعاً، صامتاً أمام هتافات المقارنات. النقاش حوله يتوهج بعواطف متباينة، هناك من يرى في مودريتش سيمفونية كروية تفوق عزف تشافي وإنييستا، تلك الأيقونات التي أضاءت سماء الكرة ببريقها، بينما يرى آخرون أن لوكا لا يتساوى معهما، وإن حقق جائزة لم يُحققها الثنائي.
لا تُجمع آراء مشجعي كرة القدم دوماً على كل شيء، لكن هناك حقيقة لا يمكن إنكارها تجمعهم، وهي أن لوكا مودريتش لم يكن يوماً مجرد لاعب عادي في كرة القدم. بينما تقترب خطى الوداع من هذه الرحلة الأسطورية تبقى الحقيقة ساطعة؛ لوكا مودريتش هو ذلك النجم الذي لا يأتي مرتين. في عالم ريال مدريد كان مودريتش ذلك الساحر الذي بمقدوره فك شفرات اللحظات الحرجة التي بدت كألغاز معقدة للنادي الملكي.
أما كرواتيا فستشهد غياب القائد الفذ، الذي كان بمثابة الرابط الذي يوحّد الصفوف المتناثرة، وبالنسبة لعالم كرة القدم بأسره فإننا سنفتقد تلك اللمسة الفريدة، السحر الذي كان مودريتش ينثره على أرض الملعب؛ تلك اللمسة التي استطاعت أن تجمع الإعجاب حتى من قلوب منافسيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.