تسلط رواية "حي نوليندورف" الضوء على العديد من التحديات التي تفرضها تجربة الهجرة على المهاجرين من المتعلمين (فئة العمالة الماهرة) للمجتمعات الغربية، والدور الذي قد تلعبه تلك التحديات في تقويض طاقات فئة من الشباب وإهدارها، من خلال ما يطلق عليه "خصوصية الثقافة" المُضِيفة، وهي في الرواية الثقافة الألمانية. صدرت رواية "حي نوليندورف" عن دار نشر الدليل في برلين للروائي وأستاذ الفلسفة د.عبد الحكيم شباط.
تروى رواية "حي نوليندورف" في 164 صفحة، وتدور أحداثها في "حي نوليندورف " في العاصمة الألمانية؛ حيث يقطن مجموعة من المهاجرين، الذين جاءوا من بقاع جغرافية مختلفة من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا. ويُعَدُّ الرابط الأساسي بين شخصيات الرواية هو العنصرية التي يتعرض لها هؤلاء المهاجرون بخليفاتهم الثقافية وأعراقهم المختلفة من قِبل فئة من المجتمع الألماني. إذ تُصور الرواية معاناة المهاجرين للحصول على وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية، وحتى بعد الحصول على درجات أكاديمية من جامعات ألمانية، فمعظم شخصيات الرواية قد اضطروا للقبول بالعمل في مهن بسيطة لسد حاجتهم المعيشية، بعد أن فشلوا في الحصول على فرص عمل تتناسب مع مؤهلاتهم وقدراتهم . ويرى عدد من الشخصيات في الرواية أن صعوبة حصول المهاجرين على فرص عمل في جامعات وشركات ألمانية تتناسب مع مؤهلاتهم قد يرجع لانتشار ثقافة لا ترحب بالضرورة بادماج المهاجرين بطاقاتهم المتنوعة في مجالات مختلفة وتناسبهم من جهة، والتعامل مع المهاجرين كمجموعة عاملة متجانسة دون تمييز لقدراتهم ومؤهلاتهم ومواهبهم من جهة أخرى . وبناء عليه يتم الدفع بتلك القوة المهاجرة للعمل في مهام معينة تسد حاجة عجلة الاقتصاد في المجتمع الألماني، كالعمل في المصانع والمطاعم مثلاً، مما يهدر تلك الطاقات الهائلة والمتنوعة للمهاجرين المتعلمين ويمتهن كرامتهم الانسانية.
ينتقد الراوي هذا التوجه في كلماته التالية: الإنسان ليس محركًاً في سيارة "فولكس فاجن" أو "مرسيدس بينز"، يحتاج فقط للوقود، هناك ما هو أسمى من الخبز، إنه الكرامة الإنسانية التي تجدد الطاقة الروحية في كيان الإنسان ، فالشاعر يحتاج أن ينظم القصيدة ، والمهندس يحتاج أن يصمم المخطط، والفنان إلى أن يرسم اللوحة، والأديب إلى أن يكتب الرواية والرياضي إلى أن يحل المعادلات، والجيولوجي إلى أن يتحسس الصخور، والكيميائي إلى أن يحلل العناصر، والمعلم إلى أن يلقي الدرس، والفيلسوف إلى أن يعيد النظر في المسلمات، فماذا يحدث عندما نحول هؤلاء جميعاً لسائقي عربات أجرة، أو لعمال نظافة، أو أُجراء في المطاعم أو باعة في الحانات؟ إنه امتهان صارخ للكرامة الإنسانية.
ومن جهة أخرى، تصور الرواية معاناة بعض هؤلاء المهاجرين المتعلمين في الحصول على المواطنة الألمانية التي تمهد الطريق لتحقيق أهدافهم، سواء بتأسيس أسرة، أو البحث عن فرصة عمل أفضل في بلد آخر من جهة أخرى، حيث تُصوِّر الرواية مشاعر العداء والعنصرية لدى فئة من الألمان تجاه الأعراق المهاجرة بثقافتهم الوافدة والمغايرة "لخصوصية" الثقافة الألمانية، وترى أن الثقافات الوافدة تؤثر على الثقافة الألمانية بالسلب، ولذا يجب التخلُّص منهم، ودفعهم للعودة إلى أوطانهم التي جاءوا منها -كما ترى السيدة "ماريون" من شخصيات الرواية. السيدة "ماريون" موظفة في دائرة حكومية مختصة بمنح الإقامات والمواطنة الألمانية للمهاجرين، وتسكن كذلك في "حي نوليندورف"، وتستغل سلطاتها الوظيفية ومعرفتها العالية بثغرات القانون؛ لعرقلة إقامة هؤلاء المهاجرين في ألمانيا.
ولكن الرواية تنتهي حين تفقد "ماريون" قواها العقلية على أثر اكتشافها أنها ليست ألمانية خالصة من أم ألمانية وأب ألماني ترك زوجته وابنته ولم يَعُدْ، كما كانت تعتقد. فـ"ماريون"، كما أخبرتها أمُّها في وصية تركتها لها قبل وفاتها، كانت نتيجة لعلاقة جنسية عابرة مع مجموعة من العمال الغجر المهاجرين، كانت التقت بهم وقت عملها في البغاء؛ لتوفير قوت يومها، فالأم نفسها قد تربت في ملجأ للأيتام، ولم يُعْرَف لها أهل، وبعد تجربة الملجأ المريرة لم تجد لها مأوى ولا عملاً سوى عملها هذا، ولكنها سعت بشتى الطرق لأن توفر لابنتها حياة مختلفة، فادخرت كل ما تملكه من أموال حتى تعلّمها وتوفِّر لها حياة كريمة؛ آملةً أن تحقق ابنتها العدالة للمهمشين يوماً ما. ومن خلال هذه النهاية للسيدة "ماريون" يهدم الكاتب خرافة نقاء عرق ما. فالمجموعات البشرية عبر التاريخ كانت في حركة دائمة من الترحال لبلدان مجاورة أو حتى بعيدة جغرافياً . وتلك الحركة ينشأ عنها بالضرورة التعارف والتزاوج بين الأعراق والأجناس المختلفة من شتى بقاع الأرض.
وبتعيين موظف آخر مكان السيدة "ماريون" تتم إعادة النظر في أوراق هؤلاء المهاجرين، ومنح مَنْ يستحق منهم الإقامة حقه، وربما هي إشارة من الكاتب لأنه، ورغم مظاهر العنصرية التي قد تعرقل العدالة في المجتمع الألماني، فإنه لا يمكن الحديث عن نظام عنصري منظم وقائم، سواء كان ذلك على المستوى الحكومي أو الشعبي، فقد صوَّرت الرواية كذلك الشخصيات التي كانت تتعاطف وتساعد الأجانب، مثل السيدة "شميت" التي قامت بتأجير غرفتها لشاب سوري، وحاولت مساعدته قدر المستطاع؛ لأنها تتفهم تلك الأوضاع التي دفعت به لتلك البلاد.
ولكن من جهة أخرى، وفي صدمة للقارئ تنتهي الرواية بعودة "تونجاي" وعائلته إلى تركيا؛ حيث يعتقد أنهم ينتمون.
"تونجاي" ذلك الشاب التركي المقيم في ألمانيا منذ ثلاثة عقود والمتزوج من "زبيدة"، ذات الأصول التركية أيضاً، ولكنها وُلِدت ونشأت في ألمانيا، وله منها أبناء جميعهم وُلِدوا في ألمانيا، ولا يعرفون لهم وطناً غيره.
أتي "تونجاي" إلى ألمانيا تاركًاً خلفه عائلته، وكذلك إجازة في الهندسة لم يستطع الحصول عليها بعد القبض عليه واتهامه بموالاة الحكومة السابقة، عقب أحداث الانقلاب العسكري في الثمانينيات، يملك تونجاي مطعماً للمأكولات التركية في البناية التي يسكن فيها، وتسكن فيها كذلك السيدة "ماريون"، ولم يسلم تونجاي من مضايقات السيدة "ماريون" التي لا تكف عن اتهامهم بالإزعاج دون وجه حق، هذا بخلاف نظراتها العدائية لهم باعتبارهم أجانب في المجتمع الألماني، وهو ما يفجر استياء التركي تونجاي أن يعتبر أجنبياً بعد العمل والإقامة، بل تأسيس حياة أسرية وعلاقات اجتماعية لكل تلك الأعوام في المجتمع الألماني، فيقول: "لو أنني أقمتُ كل هذا العمر بين الذئاب والخنازير لتعاملت معي على أنني واحد منها… ثلاثون عاماً وما زلتُ عند هؤلاء غريباً وضيفاً عليه حزم أمتعته والرحيل".
وهو ما يدفع "تونجاي" لقرار العودة إلى "وطنه" تركيا ومعه أسرته تركية الأجداد، ولكنها ألمانية المولد والثقافة واللغة. يأمل "تونجاي" أن يؤسس عملاً جديداً في وطنه تركيا بتقاليده ومجده العريق وتترك النهاية مفتوحة حول إمكانية تحقيق هذا الحلم في مجتمع يعتقد "تونجاي" أنه سيوفر له مناخاً اقتصادياً وثقافياً أفضل، رغم أن الرواي يحاول أن يلفت الأنظار لهذه الفجوة بين تصور المهاجرين عن أمجاد الماضي وصورة الوطن الذي تركوها قبل عقود وظلت عالقة في أذهانهم دون تغيير، من خلال وفاة العمة "رقية"، التي كانت آخر من عاصر الدولة العثمانية وتاريخها وتقاليدها وارثها. من هنا يمكن القول إن الكاتب يشتبك مع النقاش والجدل الدائر في الدوائر الأكاديمية حول العولمة، والحديث عن الهوية النقية من ناحية، وكذلك الهجرة والاندماج ومفهوم الوطن من جهة أخرى.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الجالية التركية في ألمانيا يعود أصل وجودها للاتفاقيات التي تمّت بين الحكومة الألمانية والتركية لاستقدام العمالة الشابة؛ للمساهمة في إطار إعادة الإعمار ودعم العجلة الاقتصادية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية في ستينيات القرن الماضي. كانت الاتفاقية تقتضي إقامة العمال لفترة محددة (عامين)، وعدم استقدام أسرهم في بادئ الأمر قبل أن تعدل تلك القوانين للسماح لهم بالإقامة واستقدام عائلاتهم لتصبح الجالية التركية الآن أكبر الجاليات في ألمانيا، ويتراوح تعداد الأتراك المقيمين في ألمانيا اليوم ما بين 2.5 إلى 4 مليون تركي، من بينهم مليون ونصف تركي حصلوا على الجنسية الألمانية وفقاً لآخر تعداد للمركز الأوروبي في عام 2020. ولكن على ما يبدو ورغم القوانين التي تعتبر هؤلاء الأتراك مواطنين ألمان يتمتعون بكامل الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المواطن الألماني، إلا أنه على ما يبدو أن الوعي الشعبي الألماني السائد لا زال له رأي آخر.
رواية حي نوليندورف والمواطن العالمي
تقول الدكتورة مانويلا بوجادزيجيفا من معهد الإثنولوجيا الأوروبية في برلين لصحفية الدويتشة فيله تعليقاً على موجات الهجرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خصوصاً، ورد فعل المجتمع الألماني عليها بأنه: "كان هناك دائماً فهم واضح في ألمانيا بأن السكان المهاجرين يجب ألا يكونوا هنا على الإطلاق، وأن الهجرة ليست جزءاً أساسياً من المجتمع الألماني… رغم أن الهجرة هي حقيقة فعلية في المجتمع، وفكرة ذوبان المهاجرين في إطار تشكيل مجتمع متجانس تُعَدُّ فكرة سخيفة".
وهو ما يأخذنا لمفهوم المواطنة وعلاقتها بالعرق في مقابل المواطنة التي تؤسس على أساس الأرض، فمع أن هناك العديد من المجتمعات تعتبر الفرد مواطناً بمجرد ولادته في تلك البلد بغض النظر عن عرق عائلته كالولايات المتحدة، فإن ألمانيا مثلاً لها شروط مختلفة، فالطفل يصبح حسب القانون مواطناً ألمانياً إذا وُلِد لأب وأم مهاجرَين قضيا في البلد 8 أعوام على الأقل، ويملك أحدهما إقامة دائمة في ألمانيا، أما مَنْ أتى لألمانيا بعد سن البلوغ فهو يحتاج لإقامة 8 سنوات على الأقل، بالإضافة لإتقان اللغة، والمعرفة بالنظام السياسي، وكذلك الاكتفاء على المستوى المادي. وبعيداً عن القانون؛ فالمواطنة والانتماء للمجتمع الألماني له شروط تختلف حين نتحدث عنها على مستوى الوعي السائد في المجتمع خصوصاً بين الفئات المتقدمة في العمر.
ومع ذلك لم يَفُتِ الكاتب أن يشير إلا أن العنصرية هنا ليست استثناءً علي المواطن الألماني، ولكنها منتشرة في كل بقاع العالم، ومنها بلداننا العربية لتي تتطاحن فيها المجموعات والفرق بسبب اختلاف العرق أو الطائفة الدينية أو حتى المناطقية، كما أنه لم يُغفِل السلوكيات السيئة التي يجلبها بعض المهاجرين معهم إلى المجتمع الألماني، وهو ما قد يُؤَثِّر بالسلب على صفات في هذا المجتمع، مثل: الدقة، والالتزام في العمل، والهدوء، واحترام الغير، في مقابل صفات جيدة يمكن أن تُثري وتُغني الثقافة الألمانية، ومنها الدفء العائلي، وأهمية العلاقات الاجتماعية.
وعموماً يبدو لي أن رواية حي نوليندورف تحاول أن تتحدث عن أناس اتخذوا قراراً لمستقبل يمكن وصفهم فيه "بالمواطن العالمي"، مواطن متعدد الملامح والصفات والهويات منفتح، قادر على عبور الحدود الجغرافية؛ لتغني الثقافة المُضِيفة وتغتني بها دون عنصرية لقومية أو إثنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.