أثناء استمرار الحرب على غزة، ينخرط حزب الله في حرب استنزاف متواصلة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية، مما يؤدي إلى تقليص المخزون الإسرائيلي من الصواريخ المضادة، بما في ذلك تلك المستخدمة في نظامي القبة الحديدية ومقلاع داوود، بوتيرة تفوق قدرة تل أبيب على التعويض. هذا التطور استدعي نزوح حوالي 80 ألف إسرائيلي من الشمال، بجانب تجميع الاحتلال ألاف الجنود عند حدوده الشمالية، في استعداد لمواجهة كافة السيناريوهات المحتملة.
وعلى بعد أكثر من 1700 كيلومتر وعند مدخل البحر الأحمر الجنوبي يتابع الحوثيون شل حركة السفن تجاه إسرائيل، حيث باءت المحاولات العسكرية الأمريكية والبريطانية بالفشل في إيقاف هذه العمليات. وفي شهر فبراير/شباط 2024، أعرب مسؤول إعلامي بارز في الكرملين عن رأيه خلال بث تلفزيوني بأن الوقت قد حان لروسيا لتقديم الدعم العسكري للحوثيين بأسلحة روسية، تستخدم في الهجمات ضد السفن الأمريكية والبريطانية.
فلاديمير سولوفيوف، الشخصية الإعلامية الروسية المعروفة والحليف القوي للرئيس فلاديمير بوتين، قدم هذا الاقتراح خلال حلقة من برنامجه على قناة "روسيا- 1″ وقال: سيحصل الحوثيون على كل شيء. وسيكون لديهم زوارق شبه غاطسة مسيرة، وسيكون لديهم أسلحة قوية، وسيحصلون على كل شيء".
في البحر الأحمر، يبدو أنه يلوح في الأفق تغيير جيوسياسي محوري يهدد بإعادة رسم خريطة النفوذ العالمي والإقليمي. فعند المدخل الجنوبي لهذا البحر الحيوي، تمكن الحوثيون من فرض تحدي كبير للملاحة المتجهة نحو إسرائيل، في خطوة لم تتمكن القوى العسكرية الغربية، الأمريكية والبريطانية، من إيقافها أو التقليل من حدتها بشكل كبير إلى الآن. وإذا أخذنا تصريحات ذلك المسؤول الإعلامي الروسي على محمل الجد، فيما يخص دعوته لموسكو إلى دعم الحوثيين بالأسلحة، ربما نستطيع أن نتنبأ بالكثير حول تزايد وتعميق التحالفات المضادة للغرب.
دروساً قاسية في البحر الأحمر
إذ لا تكمن الخسارة الاستراتيجية للغرب في البحر الأحمر فقط في عجزه عن حماية مصالحه البحرية، بل وأكثر من ذلك في كيفية تسهيله لتغيير جذري في التحالفات الإقليمية والدولية. فروسيا والصين، بما لهما من طموحات استراتيجية، ربما يجدان اليوم خلال هذه التحديات الجديدة فرصة أكثر من أي يوم مضى لتوسيع نفوذهما في المنطقة عبر بناء علاقات متينة مع الحوثيين والقوى الأخرى هناك، مستغلتين بذلك تراجع الهيمنة الأخلاقية والسياسية للغرب الحالية وخصوصاً بعد حرب غزة.
فالتصلب في موقف الغرب وتبنيه لسياسة خارجية تظهر تعالياً متزايداً، خصوصاً في دعمه غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على الفلسطينيين، يضعف موقفه ويفقده الكثير من صورته وهيمنته وحتى وقوته في الردع. وتصريحات الأمريكية حول ضعف فاعلية الضربات ضد الحوثيين ربما تؤكد على هذا الضعف وتبرز التحديات الاستراتيجية وحاجة الغرب الماسة لإعادة تغيير استراتيجياته العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط.
ما يحدث في البحر الأحمر لا يشير فقط إلى تحول في ميزان القوى الإقليمية والعالمية، بل يعكس أيضاً كيف أن التكنولوجيا الحديثة، مثل الصواريخ المضادة للسفن والمسيرات، قد غيرت قواعد للعبة الهيمنة، وخصوصاً في الحروب البحرية، مما قد يقلل من أهمية السفن الحربية التقليدية في السيطرة على البحار. هذا التطور يشير إلى أن القدرة على إغلاق الممرات البحرية أو السيطرة عليها لم تعد حكراً على القوى البحرية الكبرى بل أصبحت في متناول الجميع، بما في ذلك الجماعات المسلحة والدول الأصغر. لذلك، ليس من قبيل المبالغة اليوم، القول بأن حرب غزة وما تلاها من تداعيات، لاسيما أنها جاءت في أعقاب الصراع الروسي الأوكراني، قد سلطت الضوء بوضوح على التراجع السياسي والاستراتيجي للغرب، بشكل خاص بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن الغرب غير قادر على استعادة بعض ما فقده من هيمنته، لأنه إذا أراد فإنه يجب أن يخضع لعملية هيكلة شاملة لموقفه واستراتيجياته في المنطقة وهذا من الصعب حدوثه في ظل وجود إسرائيل التي تدفعه إلى التعامل باتجاه وسلوك واحد في المنطقة، ويبدو أن القوى الغربية ستجد صعوبة في التكيف في المستقبل القريب في المنطقة التي ستحف بتحولات استراتيجية معمقة، قادرة على إزاحة الغرب من موقعه القيادي على المسرح الدولي. تجاهل هذه التحولات والفشل في التكيف معها لا يعدو كونه طريقاً مؤكداً نحو تعميق الخسارة الاستراتيجية للغرب وانحسار نفوذه عالمياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.