لم يعد الأمر يتعلق بمن تَقف، فالحربُ تزداد شراسة يوماً بعد اليوم، فكلما اقترب الأَملُ بِوقف هذا الفيلم الدمويّ يَتجدد صَوتُ الظلمِ في سماءِ غزة وأرضها، نعم هِي حربٌ واحدة تَجمعُ حروباً متعددة بِكل يومٍ وَليلة.
هَل كُتب على غزة أن تشم رائحة الموتِ عاماً بعد عام، هل كتب على الشعبِ هناك أن يعيش سكرة الموتِ مرتين، هَل كتب عليهِ الفناء والنزوح والتهجير، هل كتب عليه أَن يموت لا بِفعل انتهاء الأجل، بل بفعل الجوع والخَوف، نعم هي النهاية واحدة لا ريب فيها ولكن ذلك الشعب يستحق الحياة، يستحقها بكل ما فيها.
هناك تتجدد الأبجدية التي تلازم الموت، تَتنوع أساليبه دون رحمةٍ لعجوز أو طفل، فهل سمعت بِالدهس حياً إِلا في غزة؟ بِدفن الأشلاء في منتصف الشوارع بالقرب من الإشارات إِلا في غزة؟ بِالتفنن بمواضع الرصاصِ لأن العدو يعلم ما هي نقاط الضعف إلا في غزة؟ فمن إمام جامع متكلم إِلى رجل صامت لا يعلم أحداً ولا ينطقُ من الأبجديةِ حرفاً، شبابٌ عزل أياديهم تُلوح يميناً ويساراً كفوفهم فارغة لا تحمل السلاح ولا تَبدو على هيئتهم ملامح المقاوم، راجَعين إلى بيوتهم تَتسلى عليهم مجندات إسرائيليات بِقصفهم مباشرة قبل العثور على منازلهِم بواسطة طائرات مسيرة دون طيار، وآخرون أمعاؤهم خاوية ثار عليهم صوت الجوع فذهبوا إلى دوار الكويت أملاً بشيءٍ من الفتات أو الطحين، فعادوا خبراً عاجلاً، عادوا أسماء في مجزرة جديدة، وحتى الأملُ الذي يسقطُ من السماءِ أصبح طريقاً جديداً للموت، تَلتفُ حبال المظلة حول العناقِ الجائعة فَتخنقها بَدلاً من أن تُطعمها، وفي مجمع الشفاء تتكشف عورات الرجال بعد الاحتجاز ويغتصبُ شرف المرأة، كُل هذا يحدث بِغزة.
الصدمة، الفقد وحسرته، وجعُ الخذلانِ، والسؤال: لماذا تركونا وحدنا؟ وما الذنب الذي اقترفناه لِتلد الأمهات لِأجل أن تحمل حسرة المواليد قبل أن يروا النور، قبل أَن يُصبحَ لهم اسم، وهويتهم لا بأس بها فهويتهم الموت.
هذه الأشياء هي التي توحّد الغزيين، توحدهم بِمساواةٍ دون تَفرقةٍ واسعة، الفرق ربما يكون ضيقاً، بيتٌ لديه شربة ماء حلو وآخر ماء مالح، بيتٌ يتوفر فيه طحين أبيض وآخر معجونٌ بالدماء، بيتٌ نزح ساكنوه وآخر ما زالت أشلاء أصاحبهِ تحت الركام تتعفن تدريجياً.
في غزة حتى المواسم والفصول بدت لها هموم أخرى، الشتاء الذي نستيقظ فيه على صوت فيروز وكوب من القهوة، أصبح في غزة لعنة تارة ونعمة تارة أخرى، في الغرقِ كارثة للخيامِ وللعطشى نعمة للارتواء، ففي ظِل خيبة الخيانات العلنية أصبحت الرحمة من الرب هي المرجوة، أصبح الأمل فيه أن ينزل ملائكة تسخر المأوى واللباس، تُهدهد الفزع وَتلقي على قلوب الأمهات السكينة، تُخيط الجروح دون ألم فالمخدر أصبح ماءً لا جدوى منه، وملائكة أخرى للعذاب تدب الرعب بكل يد منحت فرصة الغرق للدماء كانت أعجمية أو عربية.
وماذا عن الراية البيضاء في غزة، ماذا عنها لتخرج عن معناها الحقيقي، فبدلاً من أن تشير إلى الممر الآمن والاستسلام، رفعها يؤدي إلى القتل، حتى الحب الذي ينضج في الحرب لأنه الدواء يُقتل قبل أن تنمو أوراقه وتتكاثر سنابله في الأرض.
وماذا عن التغريدات التي تأمر أهل غزة بالصمود وتنبذ بوحهم بِالضعفِ والحزن، هل عليهم أن يكونوا مخلوقات كرتونية خَارقة؟ هل عليهم أن يتجردوا من مكونات الإنسان وعواطفه لِيرضوا تغريدات ساذجة؟ نعم، هم مختلفون عنا لا يشبهوننا بشيء، هم يشبهون أَنفسَهم فقط، يشبهون الجنّةَ والقضية، هم الحَقيقة وَنحنُ نسلُ الوهمِ، هُم يَأتون مِن العدمِ ويرحلونَ إِلى جنةٍ دون حصارِ، ونحن نأتي من العَدمِ ونموتُ في العَدمِ، ولكنهم بِالنهاية بشر عاديون لا خارقين.
وأما أنا القريبة البعيدة الشاهدة مشاهدة معجونة بقلة الحيلة وقهر العجز، جعلتني الحدود محتلة أيضاً، في داخلي سِجن سياسي صامت، في داخلي أبجدية كلما أعلنت البوح أظهروا لها الجنازير والسجون الانفرادية، في داخلي تفجيراتٌ سقطت على أطفال رضع دون إنذار، في داخلي طائرات مُسيّرةٌ من بلاد عربية تقتلُ العربي وتحمي الأجنبي، في داخلي صمت غبي يتباهى بِعناده، يتباهى بِالجهل الذي سيقوده إلى سطوةٍ لا تعلم الرأفة والرحمة، سطوة لأجلِ مصالحها الدنيوية تسحق جميع البشرية دون اكتراث، دون أن تقول لها النفس اللوامة: توقفي، كفاكِ عبثاً.
ذلك الشعب الذي أَغرقوه بِالدماء، وَأَسقطوا عليه جميع المُخططات يَستحقُ الحياة، يستحق أن يعيشها مرتين لَا مرة واحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.