مع مرور الأيام تأخذ معركة غزة، التي تقترب من إكمال شهرها السادس، أبعاداً جديدة وأكثر خطورة، كونها ربما تذهب كأحد المكونات الرئيسية في معادلة الصراعات الدولية بين الشرق والغرب. إذ ربما تبرز الحرب كجبهة في النزاع بين تحالف الناتو والتكتل الروسي الصيني، الذي يتلقى دعماً من غالبية دول الجنوب، من أجل تعديل النظام العالمي القائم على القطبية الأحادية، أي الهيمنة الأمريكية، إلى نظام يعتمد على التعددية القطبية تكون له قواعد جديدة تخفف من الآثار والممارسات السلبية الخارقة لسيادة الدول نتيجة استخدام القواعد الحالية التي لا تخدم سوى الدول الغربية على حساب باقي دول العالم اقتصادياً وسياسياً.
بعد ستة أشهر من الحرب على غزة، ورغم الفروق الهائلة في القوة المادية، لم يتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتلقى دعماً غربياً من حيث السلاح والمتطوعين، من تحقيق الأهداف الرئيسية التي حددها لحربها على القطاع، وذلك بحسب اعترافات سياسييها وعسكرييها، بل حتى من قبل بعض حلفائها.
فشل تدمير المقاومة يمثل تهديداً وجودياً لإسرائيل
التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية يمارس مناورات على الساحة السياسية، قد تعطي بعض ظواهرها انطباعاً بأن هناك تراجعاً عن الدعم المطلق لتل أبيب، في حين أن واقعها مخالف تماماً، لأن حلفاء إسرائيل يقدرون أنه إن لم تنجح في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها بعد عملية "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر 2023، فإن خسارتها ستكون ذات أبعاد وجودية، وستقلب رأساً على عقب كل المشاريع الغربية في منطقة الشرق الأوسط الكبير، كما سترسّخ معادلات جديدة لتوازن قوى إقليمية غير مواتية للمصالح الغربية، وداعمة للتحالف الروسي الصيني.
هذا الواقع اعترف به، يوم الإثنين 25 مارس 2024، وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت، خلال زيارته للولايات المتحدة، وبعد اجتماعه على انفراد لمدة ساعة ونصف الساعة مع مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، في البيت الأبيض، حيث قال "إن نتائج حرب إسرائيل ضد حركة "حماس" ستؤثر على المنطقة لعقود قادمة، وستكون بمثابة إشارة للأعداء المشتركين لكلا البلدين".
جزء من القوى الغربية وخاصةً الأوروبية تجد نفسها في متاهة بين مسايرة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وخطر تعرض مصالحها السياسية والاقتصادية للخطر، خاصةً بعد تجربتها المرة مع الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة في وسط شرق أوروبا، منذ 24 فبراير 2022، والتي كبّدتها خسائر فادحة بسبب تضحيتها بدعم مادي بعشرات المليارات من الدولارات لأوكرانيا، وسياسة العقوبات التي حرمتها من موارد الطاقة الرخيصة، التي كانت توفر لصناعاتها فرصة مناسبة لمنافسة السلع الصينية وباقي منتجات النمور الآسيوية في السوق العالمية. رغم وجود هذا الخطر نجد غالبية دول الاتحاد الأوروبي تتناقض مع نفسها في التعامل مع الحرب في فلسطين.
رغم أن العديد من الدول الأوروبية دعمت إسرائيل تحت تأثير الضغوط الأمريكية والبريطانية، فإن استمرار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة وضع الدول الأوروبية، والتي تدّعي وتتغنّى بشعارات حقوق الإنسان، في موقف محرج، وأدرك ساستها متأخرين أن واشنطن ولندن استثمرتا الموقف الأوروبي في تلك الحرب لصالحهما، الأمر الذي لم يتمكن من خلاله الزعماء الأوروبيون من اتخاذ موقف واحد بشأن الحرب في غزة، أو التوصل إلى صيغة واحدة بشأنها.
لكن استمرار عملية الإبادة الجماعية في الأراضي الفلسطينية أجّج احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا، ونتيجة لذلك توسعت الهُوة بين الرأي العام في أوروبا والحكومات الأوروبية. ولذلك كان لا بد من قيام السلطات الأوروبية بدبلوماسية جديدة وتغيير مواقفها، على الأقل ظاهرياً، بشأن ما يحدث من بشاعات في غزة من أجل إرضاء الرأي العام الذي تحتاجه في الانتخابات المقبلة.
ويبدو أن الدول الغربية تفضل القواعد التي تضعها بنفسها وفقاً لاحتياجاتها عن طريق الإدارة الدولية الانتقائية، بدلاً من استخدام القائمة التي تقترحها الأمم المتحدة والقانون الدولي، وهذا ليس جديداً في الواقع، لكن العدوان على غزة سلَّط الضوء على هذا الأمر بشكل صارخ.
وكما ذكرت صحيفة بريطانية أنه بينما يتعايش الناس مع العجز عن وقف المذابح في غزة، يقدم زعماء سياسيون "في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا روايةً أخرى غير دموية للحرب، تتجاهل فيما يبدو الحقيقة، وعدد الوفيات، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى لغة سيريالية تدعو إلى اتخاذ الاحتياطات الممكنة لحماية حياة المدنيين".
وأدى هذا "الإصرار الغريب على عدم تسمية الواقع كما هو"، إلى كشف النفاق الغربي والمشاركة الفعلية في عملية إبادة، خاصةً أن السلاح يتدفق بدون قيود من الغرب على تل أبيب.
الآن أوروبا تجد نفسها متخبطة تجاه حرب غزة، وغارقة في وحل حرب أوكرانيا، ومنقسمة بشأن توسيع المواجهة مع الكرملين في وسط شرق أوروبا، لذلك ترى في الأفق أخطاراً متزايدة في حرب غزة، وتحولها إلى حرب إقليمية تلحق بها أضراراً أضعاف ما أصابها من ضربات اليمن في مداخل البحر الأحمر.
بينما تتابع الولايات المتحدة وإسرائيل تطور الحرب بقلق، في هذا السياق أشارت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، في تقرير لها يوم الخميس، 21 مارس 2024، إلى أن إسرائيل تعيش"لحظة غير مريحة"، بعد أن راكمت الفشل في مواجهة حركة حماس، وفي جبهتها الداخلية، وفي مواجهة "الحرب القانونية" التي تشن عليها حول العالم. حيث رأت المجلة، في تقريرها، أنّ "كثيرين من الإسرائيليين ينكرون هذه الحقيقة اليوم"، مؤكدة أنه رغم ذلك فإن "الحساب السياسي سيأتي في نهاية المطاف".
ووصفت المرحلة الحالية بأنها "لحظة غير مريحة أبداً لأصدقاء إسرائيل"، التي شنّت حرباً، بعد 7 أكتوبر، لكنها "فشلت في مهمتها بصورة واضحة".
التأثير على مكانة إسرائيل الدولية قد يشكل تحدياً إضافياً في استمرار العمليات العسكرية في غزة، وذلك بالنظر إلى الرؤية البعيدة المدى التي تبرز إيران وحزب الله كتهديدات أساسية. التصدي لهذه التحديات يستوجب تعزيز التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وهو أمر يتطلب بدوره دعماً متجدداً وموحداً من كلا الحزبين الرئيسيين في الكونغرس، بالإضافة إلى تأييد دول الخليج العربية. هذه الحاجة إلى دعم دولي واسع النطاق تعكس صعوبة موقف الاحتلال الذي يتزايد مع تزايد فشله كل يوم بالقضاء على حماس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.