الاغتيالِ تماماً من حيث عامل المفاجأة وسرعة التنفيذ، تهاجمُ الجلطاتُ الدماغية والقلبية عدداً من الشباب العربي في أوروبا، ليجدوا أنفسهم أمام الموت المحتوم الذي هربوا منه في بلدانهم المنشأ، فلا تكاد تمر فترة زمنية وجيزة إلّا ويطالع المُتصَفّحَ اسمٌ لأحدهم قد ذهب ضحيةَ جلطةٍ دماغية مفاجئة وهو في ريعان الشباب، كان من أواخرهم الطبيب الشاب أحمد يوسف أبوزرد ذو الـ39 عاماً، الذي رحل إثر نزيفٍ دماغيٍّ حادٍّ ومفاجئ في ألمانيا، لألتقي في جنازته مع أشخاص لم أشاهدهم منذ عشر سنوات وأكثر، حيث تساءل الجمْعُ: ما هي أسباب تكرار الإصابة بالجلطات بالنسبة للشباب العربي في أوروبا؟ رغم أنهم يعيشون في بحبوحة، حيث تتوفر مقومات الحياة وفرص العمل وحرية التنقل، والجنسيات وعوامل الرفاهية، في الوقت الذي لم يُجلَطوا في بلدانهم الأم رغم قلة الحيلة ومشقة الحياة.
طِبّيّاً، ليس عندي جواب لأنني لستُ طبيباً، حتى الأطباء عجزوا عن تقديم سببٍ علميٍّ واضح، ولكنّ الإجماع يقول إن الجلطة هي حصيلة ضغوطات متراكمة فاقت قدرة الدماغ على التحمل، ما أدى إلى ارتفاع ضغط الدم وتفجّر أحد الأوعية الدموية في الدماغ، ويبقى السؤال المطروح: ما هي الضغوطات التي يواجهها الشباب العربي في أوروبا والتي لم يُفصحوا عنها إلّا حين باغتهم الموت، فكان كاشفاً لكل الأسرار التي أخفوها عن الآخرين لفترة طويلة؟
أولاً: عامل الوِحدة القاتلة: حيث يجد الشاب نفسه وحيداً في كل شيء، بعد أن كان ينعم سابقاً بالمجتمع، وعليه أن يتخذ أي قرار وحيداً، فبالكاد يستطيع أن يجمع على سبيل المثال عشرين رجلاً في زفافه، وثلاثين عند وفاته، وربما لا يجد هذه الأرقام، بالإضافة إلى روتين الحياة الأوروبية الذي يفرض عليه أن يكون وحيداً حتى لو كان يعيش مع عائلته في نفس البلد الأوروبي أو نفس المدينة أو نفس الحي، فأوقات العمل الطويلة ونموذج الحياة التي نحياها في أوروبا تدفعنا من حيث لا نحتسب إلى التخلي رويداً رويداً عن العلاقات الاجتماعية، فلا تستطيع أن تلتقي بصديقك الذي كنت تعيش معه في ذات الزقاق، إلّا بعد تنسيقٍ مُسبَقٍ ومُطوّل، وأحياناً تحتاج إلى تذكرة طيران غالية الثمن، ما يدفع الطرفين إلى العزوف عن اللقاء والإبقاء على التواصل الإلكتروني، فيجد الشاب نفسه في نهاية المطاف وحيداً في مواجهة الضغوطات وروتين الحياة الممل.
وهنا أتساءل: كم هم أولئك الشباب الذين نعوا آباءهم على منصات التواصل الاجتماعي، ولم يتسنّ لهم الحضور لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة؟ وكم هم أولئك الذين شيّعوا أمهاتهم إلكترونياً فقط، بعدما حُرموا من اللقاء؟ وكيف سوف يحيا ذلك الشاب الذي شاهد جنازة أمه في البث المباشر؟ في حين رأى ذلك الآخر أخاه المُشيَّع بالصور ؟ وفيمَ الحياةُ لو لم يستطع أحدهم أن يكون جانب أمه وهي تحتضر كي يحصل على شرفِ برّها؟ خاصةً اليوم، حين يموت شباب غزة المقيمون في أوروبا ألف مرة في اليوم الواحد، بسبب أهوال ما يرونه من مجازر إسرائيلية بحق عائلاتهم، حيث لا يتسنى لهم حتى الاتصال بعائلاتهم والاطمئنان عليهم، فلا يجدون سوى الجدار الأزرق (فيسبوك) كي يتنفّسوا به، ولكنه هو الآخر آثرَ ألّا يتضامن معهم، بل يكون شريكاً في المؤامرة على المحتوى الفلسطيني، وكأنه يقول لهم: عِش مظلوماً ومت مجلوطاً.. هكذا يزف جُلّ الشباب العربي في أوروبا جثامين عائلاتهم.
ثانياً: عدم الجرأة على بث الشكوى، وهذه من أبرز المعضلات، بسبب الاعتقاد الخاطئ أنّ من يعيش في أوروبا هو مُنزّه عن الهموم والمشاكل والضغوطات، ولا يحق له أبداً أن ينبس بكلمة أو تنهيدة، ما يؤدي إلى احتباس الهموم وتراكمها وعدم القدرة على البوح بها، بالإضافة إلى عدم معقولية بث الشكوى أمام العائلة فيما إذا كانت تعيش في سوريا أو غزة أو اليمن أو أي بلدٍ منكوب، لأن ذلك يتضارب مع المنطق، فكيف يمكن لشاب يقيم في هولندا على سبيل المثال، أن يشكو أمام أخيه الذي يعيش في سوريا، أو صديقه الذي يعيش في مخيمات الشتات، أو أقاربه الذين رسموا في مُخيّلتهم أن ذلك الإنسان يعيش في جناتٍ ونَهَر، ولا يعلمون أنه يعاني الأمرّين بسبب الغربة والوحدة والابتعاد عن أشياء كانت بالنسبة له بمثابة الوريد وخطا أحمر لا يحيا بدونه.
ثالثاً: وهو عامل خاص بالمتزوجين الذين لديهم أطفال، حيث يخشى الأب والأم على فقدانِ ابنهما وهو حيّ، ما يشكل ضغطاً وفير الأثر، لأن فقدان الأبناء وهم أحياء، أصعب بكثير من فقدانهم أمواتاً، فالميت يغيب عن العين ثم تتلاشى ذكراه رويداً رويداً، في حين أن الحي الذي تم فقدانه أشدُّ وطأةً على القلب، وبالتالي يعيشُ الأبُ على صفيحٍ ساخن، لأنه على إدراك بالمخاوف والمحاذر التي تحيط بأبنائه في بيئةٍ مُفكّكةٍ مفروضةٍ عليه فرضَ العين، ولا يستطيع أن يحرّك ساكناً أمام سطوةِ القانون الذي يمنع التدخل، فيعيش الأب أمام ضغطٍ هائل، ناهيك عن الأطفال الذين تمّ سحبُهم من عائلاتهم عنوةً في السويد وبلدان أوروبية أخرى، وإذا ما حاولتَ الاعتراض لو بمجرد منشور على فيسبوك، تجد من يقول لك: (إذا مش عاجبك ارجع ع بلدك وع طوابير الخبز)، أو (انت إجيت برجليك لهون)، أو (إنت خاطرت بولادك بالبحر مشان توصل لهون) أو.. أو…، وبالتالي يضطر المرء للصمت أمام هذا الشلّال من الاعتراضات، فلا يكتب أو يبوح بشيء تجنّباً للجدال العقيم الذي لا طائلَ منه..
رابعاً: عزوف الشباب عن الزواج: لعدة أسباب بعضُها مُحِقّ، فيما يبدو بعضُها الآخر على نقيض ذلك، ولا يمكن خلال هذه السطور، الغوص في أسباب ذلك، لأنها تحتاج مقالاً آخر، ولكنّ زبدة الحديث تكمن في أن الشاب العازب عليه أن يكون رجلاً وامرأة في ذات الوقت، فالفراغ القاتل يدفع به إلى المهلكات، والبحث عن الهروب إلى ما وراء الواقع، والوحدانية ليست من العوامل البشرية، ولا يقوى عليها إلا الله تعالى الذي استفرد بالكون، أمّا البشر فلا طاقةَ لهم في هذه الوحدانية التي تسوقهم إلى جلطات دماغية قاتلة.
تلك هي معضلةُ الجلطات التي اجتاحت منصات التواصل، تاركةً خلفها عنواناً عريضاً مفاده: لا تحسدوا الشباب العربي المقيم في أوروبا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.