سيري ببطءٍ، يا حياةُ، لكي أَراك ِبكامل النقصَان حولي. كم نسيتكِ في خضمِّكِ باحثاً عني وعنكِ. وكلما أدركتُ سراً منك قلتِ بقسوةٍ : ما أجهلَكْ! قلْ للغياب: نقصْتَني وأنا حضرتُ… لأكملَكْ!.
عندما قدمت لأنقرة قبل ثلاث سنوات، تعرفت على أحمد، الشاب المصري الذي سرعان ما تحول من مجرد معرفة عابرة إلى صديقٍ يشاركني لحظات الحياة بكل تفاصيلها.
في إحدى الأمسيات، دعاني أحمد إلى منزله. كانت تلك الليلة بمثابة رحلةٍ إلى عوالم أخرى، بعيداً عن صخب المدينة وزحامها. بينما نحن جالسون، نشرب الشاي الإيراني الذي يحضره أحمد بطقوسٍ تحمل في طياتها الكثير من دفء الشرق ولياليه، التي كان يتحدث عنها أحمد وكأنه طاف مدن الشرق كلها، كانت أنغام فيروز تملأ الغرفة، تلك الألحان التي كانت دوماً مرافقة لجلساتنا، تضفي على اللحظات لمسة سحرية لا توصف.
على الحائط، بجانبٍ معلقة، كانت هناك أبيات شعرية تقول: "سيري ببطءٍ، يا حياةُ، لكي أَراك ِبكامل النقصَان حولي. كم نسيتكِ في خضمِّكِ باحثاً عني وعنكِ. وكلما أدركتُ سراً منك قلتِ بقسوةٍ : ما أجهلَكْ! قلْ للغياب: نقصْتَني وأنا حضرتُ… لأكملَكْ!".
وعندما طلبت من أحمد أن يترجم لي تلك الأبيات، كانت ترجمته، رغم بساطتها وتكسرها أحياناً، كفيلة بأن تنفذ إلى أعماقي، كانت تلك الأبيات بمثابة الجسر الذي قادني إلى اكتشاف عالم محمود درويش، لا الشاعر الفلسطيني، بل الشاعر الذي تجاوزت كلماته حدود اللغة والجغرافيا ليصبح صوتاً عالمياً يعبر عن آمال وآلام وأحلام البشرية جمعاء. منذ حينها، لم يعد درويش في نظري مجرد شاعر فلسطيني أو عربي، بل أصبح شاعر العالم الذي استطاع بكلماته العربية أن يعبر عن أرواح عدة بلغة واحدة.
تلك الليلة، بينما يستقرئ عليَّ صديقي أبياتاً أخرى لدرويش، بدأت أدرك أن شعر درويش لم يعرف حدوداً أو قيوداً. ومع تعمقي لاحقاً، في قراءتي لحياة محمود درويش وشعره، بدأت أدرك الأبعاد الإنسانية والثورية لكلماته التي تجاوزت بكثير مجرد التعبير عن الهوية الفلسطينية أو العربية.
لقد كان درويش، بحق، مجدداً في فن الشعر، مزج بمهارة بين الشخصي والعام، بين الفقدان والأمل، بين الحزن والسعادة. كلماته، التي تغذت من بئر عميق من الحيرة والمنفى ومصادرة الأرض والهوية، ترددت صداها في أرواح الكثيرين حول العالم، ممن وجدوا في شعره صوتاً لمقاومتهم الخاصة والذاتية، لأحلامهم وآلامهم.
شعر محمود درويش الذي عانق العالم
لم يكن غريباً أن يتفاعل درويش بعمق مع شعراء عالميين كبار مثل فيدريكو غارسيا لوركا، وبابلو نيرودا. فكما هؤلاء الشعراء، كان درويش يسعى لتجسيد التراجيديا الإنسانية في كلماته، تلك التراجيديا المتجذرة في الصراع بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. شعره كان بمثابة جسر يربط بين الخصوصية الفلسطينية والهم الإنساني العام، ما جعل منه صوتاً لا يمكن تجاهله في الأدب العالمي.
في عصرنا اليوم، حيث تبتلعنا الحداثة تبدو الحياة أكثر سيولة وهشاشة من أي وقت مضى، يمكن لأي إنسان في أي بقعة جغرافية أن يشعر بشعر درويش بغض النظر عن لغته، فعلى سبيل المثال في هذه الأبيات لدرويش: "لا تحنَّ إلى مواعيد
الندى .. كُنْ واقعيّاً كالسماء.. ولا تحنّ
إلى عباءة جدِّكَ السوداءِ، أَو رَشَوَاتِ
جدّتكَ الكثيرةِ، وانطلِقْ كالمُهْرِ في الدنيا..
وكُنْ مَنْ أَنت حيث تكون.. واحملْ
عبءَ قلبِكَ وَحْدَهُ.. وارجع إذا
اتَّسَعَتْ بلادُكَ للبلاد وغيَّرتْ أَحوالَها..
أُمِّي تضيء نُجُومَ كَنْعَانَ الأخيرةَ..
حول مرآتي..
وتَرْمي في قصيدتِيَ الأَخيرةِ شَالَها".
بسلاسة تجد شعر محمود درويش يحقق التعبير الأمثل عن موضوعات الحياة، فنجده هنا في تلك الأبيات يعبر عن الصراع بين الحنين إلى الماضي والضرورة الملحة للتأقلم مع الواقع المعاصر والمستقبل الغامض.
معبراً عن الإنسان اليوم بكل ما يعتريه من تقلبات وتحديات. في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه القيم بوتيرة مذهلة، يعيش ويعكس درويش في أغلب شعره هذه الهشاشة بعمق، مسلطاً الضوء على المعاناة الإنسانية الكامنة في جوهر الوجود البشري.
يعبر شعر محمود درويش عن إنسان اليوم بإظهاره ككائن يبحث عن معنى في عالم يبدو أنه فقد اتجاهه. في هذا السياق، يتناول الشاعر مفاهيم الهوية والانتماء بطريقة تعكس الشعور بالضياع والغربة، وهو ما يتردد صداه في قلوب الكثيرين باختلاف موقعهم الجغرافي الذين يشعرون بالتشتت في عصر يسوده الغموض واللايقين. يتخذ شعره من هذه الهشاشة مادة خصبة، مستكشفاً الصراعات الداخلية والخارجية التي تشكل حياة الفرد في عالم اليوم الذي يفتقر إلى الثبات.
نجح درويش من خلال تأملاته في المنفى والفقدان، أن يقدم تصويراً للحياة كرحلة مليئة بالتحولات، حيث كل شيء معرض للتغيير والزوال. يكشف شعره عن الوجوه المتعددة للإنسان في ظل التحديات الراهنة، والأسئلة الوجودية التي تجتاحه، أفعاله اليومية. يستخدم درويش اللغة كأداة لمواجهة هذه الهشاشة، محاولاً من خلال أبياته أن يقدم للقارئ نوعاً من الصلابة الروحية والأمل، رغم كل شيء.
محمود درويش، بمعانقته للكلمة ورسمه للصور الشعرية التي تخترق الحدود والأزمان، لم يكن يوماً شاعراً للفلسطينيين فحسب، ولا للعرب وحدهم، بل تعدى بصوته الشعري إلى أن يكون شاعراً للعالم بأسره. في شعره، يلتقي الخاص بالعام، والشخصي بالجماعي، والمحلي بالعالمي، ليعبر عن مشاعر وتجارب إنسانية عميقة تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة.
شعر محمود درويش، الذي نسج من الحزن والأمل، والحب والفراق، والوطن والمنفى، خيوطاً تربط بين الأرواح، لم يكن مجرد صدى للقضية الفلسطينية وإن كانت جوهرية في أعماله، بل كان أيضاً صوتاً يصدح في سماء الأدب العالمي، معبراً عن القيم الإنسانية العالمية. فتجربة درويش الشخصية مع النزوح عن وطنه زادت من حدة وعمق شعره. قريته التي مُحيت من الوجود، لم تفقد مكانها في ذاكرته وشعره. بل على العكس، تحولت إلى رمز للفقد والمقاومة والأمل في العودة. هذه الخلفية الشخصية أعطت لكلماته صدقاً وقوة تجعل القارئ، مهما كانت خلفيته، يشعر بتلك المشاعر الجياشة التي تغلف أبياته.
لقد كان درويش شاعراً يستلهم من تجربته الشخصية ومن تراثه الثقافي ليقدم لنا فناً يتحدث عن معاناة الإنسان وأحلامه، عن قوته وهشاشته حيثما كان. لذا، فإن الإرث الذي تركه يتخطى الزمان والمكان، موجهاً رسالته لكل إنسان يبحث عن المعنى في رحلته الوجودية، ولكل قلب طاف بحثاً عن الحب، ولكل روح عانت من لوعة الفقد والغربة.
واليوم، مع كل قصيدة أقرؤها لدرويش، أجد جزءاً من نفسي، وجزءاً من العالم الذي أعيش فيه، معبراً عنه بلغة تتجاوز حدود الزمان والمكان. هذه الرحلة التي بدأتها في منزل صديق في أنقرة، أخذتني إلى أعماق الروح الإنسانية، حيث الكلمات لا تقول، بل تعيش وتتنفس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.