منذ إطلاق منصة تيك توك، المعروفة في الصين باسم دوين Douyin، والتي تملكها شركة بايت دانس الصينية، في سبتمبر/أيلول 2016، بدأت تشهد نمواً تصاعدياً ملحوظاً. هذا التنامي، مدفوعاً بالأرباح الكبيرة وسهولة تحقيق الدخل، حفز صناع المحتوى على الانخراط بقوة في المنصة. كما ساهم تطبيق نمط دقيق من خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تشجيع المستخدمين والمتصفحين على قضاء وقت أطول على المنصة، نظراً لقدرتها الفائقة على تلبية رغبات المشاهدين وكأنها تعي تماماً مزاج المستخدم.
ونظراً لأن أغلب تطبيقات التواصل الاجتماعي تقدم الأموال للمتابعين على استحياء، وعبر طرق قد تبدو معقدة، كالتحويلات البنكية وغيرها، فإن سخاء منصة تيك توك وسهولة تحويل الأموال وسحبها دون فرض قيود، شكّل ميزة للمستخدمين وصناع المحتوى، وكذلك للداعمين، سواء أكانوا من الأثرياء أم المراهقين الذين يجدون سهولة في شحن العملات وإنفاقها على من يشاؤون. هذه الميزة، أيضاً، أصبحت مصدر قلق للعديد من الدول والحكومات التي تخشى أن تصبح هذه الحرية في حركة الأموال وسيلة لتمويل الأنشطة غير المشروعة والجرائم، كغسل الأموال أو حتى تمويل الإرهاب.
في المنطقة العربية، كما في مناطق وأقاليم أخرى، أسهم التطبيق في صنع صناع محتوى جدد، مدعماً إياهم ومعززاً حساباتهم، ليجعل من بعضهم نجوماً بارزين، حيث تنهال عليهم مئات الآلاف، بل الملايين من النقاط، التي تعادل قيماً نقدية بالدولار. وليس من المبالغة القول إن هذه القيم تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات في ساعات قليلة، حيث لا يقدم ما يُعرف في تيك توك بالمبدع سوى محتوى تافه، يقوم على تنفيذ الأحكام خلال مسابقات ساذجة والتلاعب بالآخر.
منصة تيك توك.. صراع الإبداع وسطوة التفاهة
على الرغم من وجود صناع محتوى حقيقيين على منصة تيك توك في المجالات الأدبية، الثقافية، العلمية، والفنية، يقدمون محتوى رفيعاً ومفيداً يتابعه الملايين، إلا أن الشخصيات البارزة في بثوث مباشرة أو جولات على المنصة غالباً ما تكون من النوع الغريب الذي لا يمت للجودة بصلة. والأكثر إثارة للقلق أن تصرفاتهم وشهرتهم باتت تشكل أهدافاً للمراهقين وأحلاماً يسعى إليها الشباب، مُشكّلة نمطاً لحياتهم. هؤلاء الأفراد، الذين تظهر عليهم علامات الثراء والترف في ملابسهم وهواتفهم وأماكن إقامتهم، يُلهمون المراهقين للتساؤل: "لمَ لا؟". وما يدفع ويحفز انجرار الشباب وراء ذلك، الشركات الكبرى التي فتحت أبواب الدعاية والإعلان لهؤلاء المشاهير الجدد، بل وتسضيفهم بعض الدول في محافلها وعواصمها ومدنها الكبرى لأغراض الترويج، حيث يمكن للبثوث أن تجذب حوالي 100 ألف مشاهد، ويستمر ما يزيد عن عشرة آلاف مشاهد في المتابعة المستمرة.
هؤلاء المشاهير الجدد صنعهم التيك توك وهم أمثلة على الخواء والفراغ، إذ لا يعرفون إلا بكثرة المتابعين مقابل محتوى لا يمكن وصفه إلا بالبسيط المتواضع في أفضل الأحوال. هؤلاء المشاهير لا يُقدمون أي محتوى له قيمة ملموسة أو يتبنون قيماً أخلاقية معينة، بمن فيهم العرب، إذ لم يستخدموا منصتهم وسهولة وصولهم إلى الشباب والمراهقين للتوعية بقضايا مهمة كالقضية الفلسطينية أو لتسليط الضوء على الحرب في غزة، بما في ذلك جرائم التطهير العرقي والتجويع الذي يتعرض له سكان القطاع من بني جلدتهم في حرب غير متكافئة تستمر لأكثر من 140 يوماً، حيث يواجه المدنيون العزل القتل، والتعذيب، والتنكيل، والتهجير، والتجويع.
لم يقتصر تصرف نجوم منصة تيك توك، الذين وجدوا أنفسهم بمحض الصدفة ضمن قائمة المشاهير، على الصمت إزاء الأحداث في غزة، بل يظهرون الخوف والخشية من الخوض في هذا الموضوع. فإذا ما طُرح عليهم، يسارعون لإنهاء النقاش، متذرعين بخوفهم من حظر حساباتهم ومحتواهم. رغم أنه توجد العديد من الحسابات، سواء على منصات إخبارية أو ثقافية أو حتى من قبل صناع محتوى، تخصص جل محتواها لتغطية الأخبار المتعلقة بالوضع في القطاع أو للتوعية بالقضية الفلسطينية بشكل عام، دون أن تواجه بالحظر. منصات مثل AJ+ وبرامجها المتنوعة، أو حتى حلقة "الدحيح" لأحمد الغندور أو مقاطع باسم يوسف، والتي كان لها تأثير ملموس على عدد كبير من المتابعين، ليس على تيك توك فحسب، بل وعلى منصات أخرى أيضاً.
قالت العرب قديماً: "الشيء من معدنه لا يُستغرب"، وهذا الموقف لا يبعث على الاستغراب من هؤلاء المشاهير السطحيين الذين لا يجدون حرجاً في استعراض تناول الأطعمة الفاخرة على الهواء مباشرة، في الوقت الذي يعاني فيه أهل غزة من مجاعة قاسية بسبب الاحتلال. حيث يلجأ أكثر من مليوني فلسطيني إلى تناول أوراق الأشجار وأعشاب الأرض بحثاً عن قوت يومهم، آملين في الحصول على فرصة لعيش يوم آخر.
قد يرى البعض أن اهتمام بعض المراهقين بالمشاهير ليس بجديد، حيث كان الشباب في الماضي يتعلقون بفنانين أو مغنين أو شعراء أو رياضيين، ممن كانوا على الأقل يقدمون نوعاً من الفن أو المحتوى، رغم اختلاف التصنيفات الذوقية. ولكن، الجديد هو أن هؤلاء السطحيين لا يقدمون أي فائدة أو حتى مهارة في الحديث وفن التواصل، بل يمضون الوقت في سرد التفاهات.
في خضم هذا العصر الرقمي، حيث المنصات الاجتماعية تُعيد تشكيل معايير الشهرة والتأثير، يبقى من الضروري أن يتذكر شبابنا، أن كل عمل وشهرة لا تستند إلى قيمة مضافة حقيقية أو رسالة بناءة، تبقى في النهاية أشبه بسراب في صحراء الوعي الجمعي، تختفي دون أن تترك أثراً يُذكر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.