لم نكن نعلم أن الحرب الشرسة التي تَقودُ الأطراف إلى النصر أو الهلاك، تُخاض خارج الميدان و داخله، إلى أن أصبحنا شاهدين على حرب غزة، ورأينا امتداداً للحرب إلى مساحات وميادين افتراضية، حيث قادت المنصات الاجتماعية بخوارزميات معركة أفراد لا يملكون غير حريتهم ونبلهم، فبينما حاولت تلك المنصات الاجتماعية أن تحولَ المجرم إلى بريء والبريء إلى مُجرم، سلط هؤلاء الأفراد الضوءَ بأجهزتهم وكاميراتهم على الحقيقة، وما يحدث في غزة من إبادة جماعية وتدمير وتنكيل وتهجير.
للحرب الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، مساحةٌ شاسعة، ولم تتوقف لحظة إلا الآن، افتراضية خفية واقعة بين الأيادي على الهواتف والمواقع، طلقاتها مخفية بين الحروف و الصور، تستخدمُ التكنولوجيا بدلاً من الزناد، وتأخذُ مشاعر متناقضة فيها يداً إِما تُنقِذُ المظلوم أو تتركه يأساً فاقداً مُكبلاً بشهقات وَطعناتٍ عالميةٍ مُتتالية.
كشفت الحرب على غزة، عن سلاح كنا نعلم بتأثيره ولكن كان خفياً وراء الكواليس. سلاح ذو حدين، فعند جراح الشعب الفلسطيني ولا سيما الغزيّ بدا الأمر مُختلفاً، فوجدنا خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تتحول لأداة جَلدٍ لصوت الحق، ولا سيما أنها خاضعة لملكية تؤيد الاحتلال الإسرائيلي، رغم ذلك لم تحسم المعركة لها، بل خسرت تلك المنظومة التكنولوجية، بأجندتها الاستعمارية أمام أفراد لم تعجزهم الأنظمة الديكتاتورية التي تؤيد مشروعاً استعمارياً لا يمتّ للإنسانية بصلة يسعى فقط ليصب ما ينادي به منذ نشأة الحركة الصهيونية غيرَ مُكترثٍ لملكيةِ الأرضِ وأصحابها، حرب غير متوقعة خاضها أفراد باختلاف العرق والجنسية واللون بكل نبل، جَمعهم صَوتٌ واحد فقط: الحرية الحرية لفلسطين.
كانت الكلمة والصورة والفيديو والحقيقة، هي سلاحهم أمام منظومة تكنولوجية محاولة إبادة أي حق للمظلومين. وقد ذكرت مجلة "إيكونوميست" أنه يبدو أن التعاطف مع إسرائيل في أعقاب عملية طوفان الأقصى، قد "جفّ"، إذ إن مؤيدي الفلسطينيين لم يكتفوا باللجوء إلى الشوارع فحسب، بل إلى وسائل التواصل الاجتماعي كذلك.
فوفقاً لتحليل لبيانات جمعتها شركة "DMR" لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حدث تحول حاد ضد إسرائيل بمرور الوقت. ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان للطرفين نسب متساوية من الدعم. وبحلول 19 أكتوبر/تشرين الأول، كانت المنشورات المؤيدة للفلسطينيين أكثر بمقدار 3.9 مرة من تلك المؤيدة للإسرائيليين. مما يوضح ويفسر التضامن العالمي بين الشباب الذين استطاعت القضية الفلسطينية أن تكسبه خلال الحرب، وانتشار السردية الفلسطينية بينهم، بينما نشرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية نتائج استطلاع للرأي أظهرت أن أغلبية من الشباب الأمريكيين بين 18 و24 عاماً تتبنى مواقف غير داعمة لإسرائيل بل مناهضة لها أحياناً، وما أقام به الجندي الأَمريكي آرون بوشنل، ليس ببعيد عنا.
بينما تعالت أصوات كثير من اليهود عبر العالم -خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية- الذين حرصوا على إدانة مجازر إسرائيل في غزة، وفضح أساليب الحركة الصهيونية في "غسل دماغهم" وإقناعهم بأفكار مغلوطة عن تاريخ الصراع في فلسطين المحتلة.
فلجأوا إلى تطبيق "تيك توك" للجهر بمواقفهم في هذا التوقيت، حيث أكدوا أن وسائل الإعلام الأمريكية والغربية ترفض نقل وجهة نظرهم، وتصر على إبراز وجهة مشوهة بشأن قضية فلسطين.
بالإضافة لذلك، بدأت موجة لاعتناق الإسلام من قبل بعض المتابعين للحرب في غزة على وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، تعجب كثير من الأمريكيين -من خلفيات فكرية ودينية مختلفة- من صبر وثبات أهل غزة رغم المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقهم.
بينهم ميغان رايس، تلك الشابة الأمريكية التي تأثرت لضحايا غزة وأنشأت نادياً لقراءة القرآن، بعدما علمت أنه سر مصدر ثبات الغزيين في وجه آلة القتل الإسرائيلية، ثم ما لبثت أن أعلنت اعتناقها الإسلام.
انحياز وسائل التواصل الاجتماعي
في المقابل، ومنذ بداية الحرب أُغلقت مئات الحسابات والصفحات الفلسطينية، أو قيّد الوصول إليها، ووقف نشاط الصفحات التي تَذكر كلمة "غزة" أو التي تشير إٍلى "المقاومة"، بينما تركت الصفحات الإسرائيلية التي تضخ العنصرية لِتشوه الحقيقة وتفبرك ما يحدث في الواقع فعلاً، فأصبح الجندي الإسرائيلي يُلاعبُ الأطفالَ في غزة وهو قاتلهم دون إنذار، وكم من الصور المفبركة التي عَكستْ الحكاية لِتكون الحجج لِصالح إسرائيل فحسب.
وَلكن الخير دائماً يهزمُ الشر وَإن كانت سطوته في الغاب قوية، فلم يستسلم الأحرار على منصات التواصل الاجتماعي، بل ازدادوا عزماً وتنظيماً، فوجدناً منصات عديدة تتبع الحقيقة وتفند الزيف، كمنصة إيكاد والتي تُعرف نفسها بأنها "منصة تحقيقات" لن تتوانى لحظة عن التَّحقيق في الصور والفيديوهات المفبركة عبر تقنيات ذَكية تفرق بين الزيف والحقيقة.
في عالم الآن يندر فيه العدل، لم تنجح حرب الدعاية والمنصات الداعمة لها بكل أموالها وتكنولوجيتها، أمام أفرادٍ ونشطاء على التواصل الاجتماعي يمتلكون صَلابة الإيمان بالقضية، فحرب غزة ليست مسألة أرضٍ فقط، بل إنما هي اختبار مبدأ وعقيدة، وإِن تعالى صوت الظلم الإلكتروني فالمبادئ الثابتة أشد تمكيناً منه، لِتوثيق الحقيقة وَنقلها إلى العالم كَافة.
فهذه أفريقيا في أقاصي الأرض تَرفعُ صوتها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، وذلك الألماني يُمزق جوازه احتجاجاً على موقف حكومته ضد الشعب الأَعزل في غزة، وألحان من أرض السويد على رقصة الموت تقول: تحيا فلسطين.
وكل هذا لماذا؟ لأنهم رأوا الحقيقة كما هي، رأوها بحتة لا يُخالِطها تَطرفٌ وتحيز، فهل تستوي هذه الحرب الإعلامية مع الحقيقة التي بات يدركها الجميع؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.